مزيداً من الدول تنضم إلى حلف الناتو

كان لأنباء توجُّه السويد وفنلندا إلى تخطِّي موقفهما الطويل الأمد في عدم الاصطفاف والانحياز، واعتزام الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي «الناتو» (NATO) تضمينات ودلالات جيوبولتيكية كبيرة.
وفيما ترى جميع الأطراف في خطوة هذين البلدين الإسكندنافيتين وسيلة لمواجهة التهديدات والأعمال العسكرية الروسية، فإنها لا تُشكّل بالفعل تحولاً في موازين القوى. فهذان البلدان المستقلان كانا مناصرين للغرب ومحترزين من روسيا منذ سنين عديدة، ويملكان قوات مسلحة تبنت معايير وعقائد «الناتو» الدفاعية، وشاركت في تمارين وتدريبات عسكرية مع الشركاء الأطلسيين على مدى سنوات، ما يُسهّل دخول قوات البلدين إلى الهيكلية القيادية لحلف «الناتو» وقواته العسكرية، حيث من شأن قواتهما عند الانضمام أن تعزز بشكل كبير الدفاع الجماعي الأطلسي في أوروبا.
وقد تقدّمت السويد وفنلندا بطلب الانتماء إلى عضوية حلف الأطلسي. وما أن يُصادق جميع الحلفاء على «بروتوكول الدخول» (Accession Protocol) وفقاً للإجراءات القومية، حتى يبادر «الأمين العام» إلى دعوة السويد وفنلندا للانتساب إلى «معاهدة واشنطن»، حيث يصبح بعدئذ هذان البلدان حليفَين لـ «الناتو». وبالنسبة إلى بعض الجمهوريات السوفياتية السابقة، التي أصبحت أعضاءً في «الناتو»، كانت العملية تستغرق وقتاً طويلاً لتبنِّي العتاد والتكنولوجيا الغربيين، فضلاً عن طريقة حلف «الناتو» في إنجاز الأمور. لكنّ الأمتين المستقلتين غير المنحازتين كانتا من الشركاء الفعليين للأطلسي على مدى سنين. وقد اعتبرتا روسيا تهديداً محتملاً على مدى عقود، وطوّرتا منصات، وأنظمة وعقائد عملانية لمنع روسيا من محاولة الغزو العسكري لأراضيهما، ووقفتا في وجه أي اعتداءٍ آخر على «الناتو». واليوم بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، خرجت هاتان الأمتان الاسكندنافيتان عن حياديهما وستصبحان بامتياز عضوَين في هذا الحلف. في الواقع، كان لجهود بوتين في إضعاف التحالف الأطلسي مفاعيل معاكسة، إذ إنّ الغزو الروسي لأوكرانيا قد اعتبر عاملاً رئيسياً في تعبئة الرأي العام في هذين البلدين اللذين اندفعا عندئذ للحصول على العضوية الأطلسية. ومع اتّخاذ القرار السياسي الاستراتيجي من قبل فنلندا والسويد للانضمام إلى «الناتو»، سيكسب هذا التحالف قوتَين عسكريتَين مقتدرتَين في مجالات دفاعية عديدة، من شأنهما أن تُسهما بقدر كبير في الدفاع الجماعي الأوروبي في زمنٍ أصبح فيه التهديد المحتمل من روسيا سافراً وعنيفاً.
يملك بعض الدول المنتسبة حديثاً إلى «الناتو» قوات مسلحة صغيرة نسبياً، مع درجات متفاوتة من القدرات، ولا يسعها أن تُقدّم للتحالف إلا إسهامات ضئيلة. في المقابل، لن تحتاج السويد وفنلندا فعلياً إلى وقت طويل للارتقاء بقواتهما إلى مستوى معايير»الناتو»، بل إنّهما في الواقع قد اعتمدتا تلك المعايير والعقيدة الأطلسية منذ سنوات. فالانضمام إلى «الناتو» هو، من بعض النواحي، مجرد شكليات. بيدَ أنّه تصريح واضح وعلني من قبل هذين البلدين إلى أوروبا، وروسيا والعالم.

flags

وعلاوة على ذلك، لدى هاتين الدولتين خبرات كبيرة في القتال وسط الأحوال الجوية الباردة والعمليات الساحلية فوق البر وفي البحر، وتلك هي مهارات يحتاجها حلف «الناتو» والتي من شأن الحضور الإضافي لمثل هذه القوات المقتدرة، تمركزاً على نحو استراتيجي في بحر البلطيق، أن يحدث طمأنينة لدى باقي أعضاء «الناتو» بأن ثمة قدرات وطاقات إضافية مستعدة لكبح جماح أي عدوان روسي ينطلق شمالاً من مدينتي «سانت بطرسبرغ» و«كاليننغراد». وإذا ما أُخذت المشاركة الناجحة للسويد وفنلندا في التمارين الأطلسية العديدة خلال السنوات الأخيرة كمقياس، عندها فإن هاتَين الأمتَين الاسكندنافيتَين تكونان فعلاً متأهبتَين لذلك وعلى أتم الاستعداد والجهوزية اليوم. وقد أثبتت تدريبات عسكرية مثل BALTOPS، و «Northern Coasts»، و «Archipelago Endeavour»، أنّ الحلفاء وشركاءهم يمكنهم العمل سوية لمواجهة التهديدات العسكرية والبحرية منها على وجه الخصوص في المنطقة. وأقر «رئيس الأركان الأميركي للعمليات البحرية»، الأدميرال مايك غيلداي، أنّ فنلندا والسويد هما شريكان وثيقان بالفعل، وأن انتقالهما إلى «الناتو» سيكون في غاية السلاسة من دون أية عقبات.
وكلا البلدين من الديموقراطيات المستقرّة ذات الاقتصادات القوية، والسكان المثقفين والحكومات المستندة إلى الشفافية والنزاهة والحوكمة الذكية. وكانتا كدولتَين مستقلتَين من غير اصطفاف وانحياز تشعران بأن أمنهما هو من مسؤوليتهما، ولم ترغبا أبداً بأن تكونا من الدول الاتكالية أو التابعة، أو عبئاً على الآخرين، ولم تنشدا الدخول في عقد أو اتفاقية لتعزيز دفاعهما. لكن السويد وفنلندا في الواقع كانتا على اصطفاف وثيق من ناحية قواتهما الأمنية وأنظمتهما. وكانتا ولا تزالان في هذا السياق أفضل شريكَين. أما مكانتهما في إطار برنامج الناتو «شراكة من أجل السلام»، وهما عضوان فيه منذ العام 1994، لم تكن مجرد حبر على ورق أو علم من دون عمل. فالدولتان منخرطتان فعلياً في التخطيط والمشاركة في تمارين حلف «الناتو». وهما جزء من الاتحاد الأوروبي منذ العام 1995. وفي خلال «قمة الوايلز» الأطلسية للعام 2014، عُرّفت السويد وفنلندا، إلى جانب أستراليا، وجورجيا والأردن، على أنها دول مؤهلة لـ «شراكة الفرص المعززة للحوار والتعاون» (EOP). فانضمام تلك الدول إلى حلف «الناتو» إذاً لا يشكل انتقالاً مفاجئاً ودراماتيكياً لها.

143030

وليس بالجديد العمل سوية مع السويد وفنلندا لملاقاة التحديات الدفاعية والأمنية. فخلال مؤتمر «ليتورال أوبتيك 2022» Littoral OPTECH 2022، الذي عقد في خلال شهر آب/أغسطس الفائت في هلسنكي، تركّز النقاش على العمليات في سواحل منطقة بحر البلطيق، واشتمل على علم المياه أو الهايدروغرافيا، والجغرافيا، والتجارة البحرية، وصيد الأسماك، والتعدين، والحدود والمطالب السياسية، فضلاً عن تغطية مسائل تتعلق بالمناورة والاستدامة العسكرية هناك. ففي منطقة بحر البلطيق، تعتبر الكابلات والأنابيب التحتمائية بنية تحتية حساسة ينبغي حمايتها. وتملك كل من السويد وفنلندا جيشاً مؤهلاً على نحو أمثل لمجاراة تحديات البيئات الساحلية القاسية في البلدين. واعترف مؤتمر OPTECH بالخبرة والخبراء لدى الدولتين الاسكندنافيتين السويد وفنلندا في البيئة الساحلية الخطرة في بحر البلطيق. وفيما بدا توقيت المؤتمر وكأنه استجابة على ما يحدث في أوروبا، فإنه كان قد خُطَط له قبل جائحة «كوفيد»، ولم تتهيّأ السبل لإقامته إلا في الآونة الأخيرة.
وفي حالة السويد، فإن صناعتها الدفاعية المحلية تواصل إنتاج مجموعة كاملة من المعدات الدفاعية المتطورة، على غرار المقاتلات النفاثة، والغواصات المستقلة عن الهواء، والفرقيطات الخفية على أنظمة الصواريخ المضادة. ويوفر نطاق، وقوة وجودة المعدات العسكرية المصنوعة في السويد قدرات مذهلة لا تصدّق حقاً إذا ما أخذنا في عين الاعتبار أن السويد هي دولة تضم عشرة ملايين نسمة فقط، أي ما يقارب عدد سكان ميتشيغان وحدها.

دبابات وعربات قتال سويدية وفلندية تشاركان في أحد تمارين "الناتو"

في المقابل، يبلغ عدد سكان فنلندا نصف ما في السويد، وهي تتشارك مع روسيا بحدود طولها 1,340 كيلومتراً (830 ميلاً). ويتّبع خط الحدود مساراً أو مسلكاً وسط الغابات الكثيفة ومستوطناتٍ متفرقة، ولا تحددها حتى الآن سوى علامات، ولو أن فنلندا بدأت برنامجاً لبناء حاجز مادي على امتداد الحدود. كما أن فنلندا تملك صناعة دفاعية تُنتج معدات متنوعة ومتميزة، يباع معظمها، كمعظم منتجات السويد في سوق الصادرات.
على الرغم من أن مواطني البلدَين كانوا مقتنعين باستقلالهم على مدى سنين، فإن هذا الموقف قد تغيّر مع تهور بوتين في البحر الأسود، وهو ما توقع السويديون والفنلنديون أنه قد ينتقل إلى جوارهم في بحر البلطيق. فالهواجس تجاه روسيا واقعية لدى هاتَين الأمتَين الاسكندنافيتَين، فلكلاهما تاريخ مع روسيا، التي لم تفعل شيئاً لتهدئة مخاوف جيرانها الأوروبيين - ولا سيما بعد احتلالها شبه جزيرة القرم في «كريميا» العام 2014، وحالياً في باقي أوكرانيا - وهو ما تنظر إليه الدول القريبة بعين القلق.
وبانضمام السويد وفنلندا إلى حلف «الناتو»، ستُسهم الدولتان في الإمكانيات الأمنية الأقوى لأوروبا و«الناتو» وتفيدان منها، كما أنهما ستنخرطان على نحو أكبر في صنع القرارات المتعلقة بالمسائل السياسة الأمنية التي هي ذات أهمية أساسية بالنسبة إليهما. وأشار السكرتير العام لحلف «الناتو» الجنرال جينس ستولتنبيرغ، خلال توقيع «بروتوكولات الدخول» لهذَين البلدين خلال شهر تموز/يوليو الفائت، إلى الفرصة المؤاتية لدول أخرى ذات ميل مماثل للانضمام إلى الحلف. وقال: «إنها حقّاً لحظة تاريخية لكل من فنلندا والسويد ولحلف الناتو أيضاً - ولأمننا المشترك»، وتابع: «تبقى أبواب الناتو مفتوحة أمام أية دولة أوروبية مؤهلة للإيفاء بمطالب والتزامات العضوية، والإسهام في حفظ أمن المنطقة الأورو-أطلسية».

أثبتت تدريبات عسكرية أنّ الحلفاء وشركاءهم يمكنهم العمل سوية لمواجهة التهديدات العسكرية والبحرية في بحر البلطيق
الباب
تاريخ المقال
العدد
العدد حسب الاشهر
السنة
2022
رقم الصفحة
3

أخر المقالات