تداعيات الحرب على أوكرانيا

كشف غزو روسيا هذا العام لأوكرانيا عن بعض الحقائق المرة حول كيف انحرف مفهوم أوروبا الغربية لـ «الليبرالية» الروسية خارجاً عن مساره الصحيح، إلى درجة الوهم الذاتي. وقد أثبتَ إغراء المال وصفقات الأعمال مع الحكومة الروسية وأتباعها من الأثرياء «الأولغاريشيين» (الذين حققوا ثرواتهم على حساب الدولة الروسية وشعبها)، أنّه كان إغراء شديداً لا يمكن تجاهله.

وكان اندفاع الرئيس السوفياتي الأسبق ميخائيل غورباتشوف إلى الإصلاح لإعادة هيكلة البلاد من خلال «البيرسترويكا» Perestroika و«الانفتاح» Glasnost قد أطلق موجة من التفاؤل، بلغت ذروتها في انهيار «حائط برلين» وتحقيق الوحدة الألمانية، فانخرط الغرب فوراً في سباقٍ إلى استعادة الأموال من خلال صناديق «توزيعات السلام».

وبدا أنّ نهاية «الحرب الباردة» وإعادة توحيد ألمانيا في 3 تشرين الأول/ أكتوبر العام 1990 قد محا الذاكرة الجماعية في ما يتعلّق بإخضاع أوروبا الشرقية من قِبل السوفيات عقب الحرب العالمية الثانية. وإنشاء جوزيف ستالين لِـ «الكتلة الشرقية»، وضمان السيطرة على جميع الدول التي حررها «الجيش الأحمر»، وهو الهدف الذي يطمح الرئيس بوتين إلى إعادته. وما ينطبق على روسيا من حيث اعتبار أوروبيا الشرقية مجالاً حيوياً للسيادة الروسية ينسحب على عقيدة الرئيس الأميركي جايمس مونرو الذي يحظر القوات الاستيطانية الأوروبية دخول الأميركيتين.

وإذا ما انفصلت أو انسحبت بولندا، فإن جمهورية التشيك، وسلوفاكيا، وهنغاريا من حلف شمال الأطلسي NATO (وهي أعضاء في «الحلف» منذ العام 1999)، وكذلك دول البلطيق (لاتفيا، وليتوانيا وإستونيا)، والدول الأخرى مثل رومانيا وبلغاريا (أعضاء في «الحلف» منذ العام 2004)، حتى تتوقف الحماية المتاحة لهم والمضمونة بموجب «البند 5» من نظام حلف الأطلسي: «سيعتبر أي هجوم مسلح ضد دولة أو أكثر من أعضاء الحلف في أوروبا أو أميركا الشمالية هجوماً ضد جميع الأعضاء».

وأظهر الغزو الروسي لجورجيا في العام 2008، وشبه جزيرة القرم في العام 2014، وأوكرانيا حالياً في العام 2022، بعد أن شهدت انقساماً وعزلة عن الحماية الأطلسية الجماعية، كيف تُعامل روسيا تلك الدول التي تسعى للحفاظ على استقلالها خارج إطار الطموحات السياسية والاستراتيجية الروسية.

وصعود الرئيس بوتين لطالما كان محط الأنظار، لكنّ السؤال الذي ينبغي طرحه هو لماذا كان هناك سوء تفسير جماعي للمعلومات الاستخباراتية ما أدّى إلى التغافل عن إبعاد الافتراض بأن روسيا، مهد الحكام الكبار، على غرار جوزيف ستالين، لن تعود إلى سابق عهدها؟

وكان إمداد الطاقة والبُعد الاقتصادي حتماً من الأعمدة الرئيسية في استدراج الغرب للإنزلاق إلى وضع يصبح فيه عرضة للإعورار من الناحية الاستراتيجية أمام بلد يقف فعلياً وراء الحاجة إلى الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي «الناتو» في المقام الأول. فالازدهار الاقتصادي طغى على الأمن الاستراتيجي.

لكن يتعين على الرئيس بوتين أن يدرك بأنه من المحال بكل النواحي بأن تقبل أوروبا المعاصرة بالعودة إلى ما قبل العام 1997، كما طالبت حكومته. فسوء حساباته التاريخية حول رغبة الأوكرانيين بالبقاء مستقلين، والمستوى الذي يؤكد فيه أعضاء حلف الأطلسي - خصوصاً المملكة المتحدة، والولايات المتحدة، والدول الأوروبية الشرقية التي سعت حثيثاً لعضوية حلف الأطلسي لحماية أنفسها من غزو مماثل كالذي حدث ويحدث في أوكرانيا - دعمهم لقتال أوكرانيا من خلال تزويدها بالسلاح والاستخبار قد ترك لبوتين هامشاً محدوداً للمناورة. إنّ ويلات الحرب تتضاعف وتدمير البلدات والمدن يستمر على قدم وساق، ما يجعل أي نوع من التغاضي وعودة الغرب إلى العلاقات الطبيعية مع روسيا غير مرجّح على الأقل لجيل من الزمن، إذا لم يكن أكثر من ذلك.

وخلاصة القول، إنّ عزلة روسيا الجديدة عن أوروبا الغربية لن تؤذي فقط تطورها على مدى العقدين المقبلين فحسب، بل يرجح أيضاً أن تطلق سباقاً آخر للتسلح، لن يكون بإمكان روسيا على ما يعتقد، كما في المرة السابقة، أن تجاريه مالياً. وأعتقد جازماً أن روسيا قد تنتصر في معارك الاجتياح ولكنها قد لا تربح الحرب تماماً كما حدث سابقاً في أفغانستان. وستكون هذه الحرب مؤشراً لبداية الصراع في القطب المتجمد الشمالي حيث الثروات النفطية الغنية.

الباب
تاريخ المقال
العدد
العدد حسب الاشهر
السنة
2022
رقم الصفحة
3

أخر المقالات