رئيس الجزائر يستقيل لكنّ القيادة القديمة باقية

المترجم


تولَّى عبد العزيز بوتفليقة في العام 1999 مسؤولية قيادة بلاده نحو السَّلام والمصالحة بعد أن أنهكتها الحرب الأهلية. فقد تَعِبَ نحو 40 مليون جزائري من الحرب وأمِلوا بمستقبل من دون نزاعات داخلية ولا إرهاب ولا موت. وقد حقَّقَ لهم بوتفليقة بعضاً من تلك الأحلام. لكن مع تحوَّل حُكمه أكثر فأكثر إلى نوعٍ من الديكتاتورية. وها هو البلد الغني بالنفط والغاز وبعد مضي عقدَين من الزمن لا يزال تُديره مجموعة من أتباع بوتفليقة. معظم السكّان لم يعِش في ظل رئيسٍ غير بوتفليقة، البالغ 82 عاماً، وهو في عهده الرابع في الحُكْم. ولم يشهد الوضع السياسي جموداً فحسب، بل كذلك تدهوراً اقتصادياً في هذه الدولة الواقعة في شمال أفريقيا. وثمة ما يكفي من الأسباب لآلاف الجزائريين ولا سيّما الشباب منهم للتعبير عن رأيهم في شوارع المدن الجزائرية الكبرى. فهم منذ بداية العام 2019 تظاهروا ونظَّموا مسيراتٍ في شوارع الجزائر ضدّ الفساد، والبطالة، وسوء الإدارة ومستقبلٍ من دون عصبة بوتفليقة.
 


وحينما أعلنَ الرئيس المتقادم في السن في شهر آذار/مارس الماضي أنّه سيترشَّح لدورة رئاسية خامسة، أُصيبَ المتظاهِرون بالصدمة. فعلى الرغم من الاحترام الذي كان يحظى به، فَقَدَ بوتفليقة معظم قوته السياسية في العام 2013 حينما عانَى أزمة قلبية. ومذاك أصبح ظهوره العَلَني والتلفزيوني نادراً. كما أنّ فترة غيابه الطويلة لتلقِّي العلاج الطبي في فرنسا أضعفت مكانته في الوطن. ويدير البلاد منذ السنوات الأخيرة مجموعة من أعضاء عائلته، وكبار مسؤولي حزبه، ورجال أعمال أثرياء، والجيش والسلك الأمني. لكن مع ازدياد المظاهرات فإنّ أي انتقالٍ رسمي سلس للسُّلطة إلى هذه المجموعة السُّلطوية الخفيّة لن يعود ممكناً بعد الآن.
أمّا المراقبون، الذين لا تزال النزاعات في ليبيا ومصر وسوريا ماثلة في أذهانهم، فيتصوَّرون سيناريوهات مختلفة. لكن لم يتم الاستقرار على واحدٍ حتى الآن!
أدركَ بوتفليقة و«حاشيته» أخيراً إرادة الشعب وتصرَّفوا وفقاً لها. فقد كان الرئيس البالغ 82 عاماً من العمر قد أعلنَ بدايةً الترشُّح لفترة رئاسية خامسة (في 11 آذار/مارس) ومن ثمّ تراجع عن ذلك (في 3 نيسان/ أبريل). وامتثالاً للقوانين الدستورية، عيَّنَ المشرِّعون الجزائريون رئيس مجلس النواب عبد القادر بن صالح رئيساً جديداً هو الأول منذ 20 عاماً (9 نيسان/أبريل). وتراجعت حدّة المظاهرات في البداية لكن هل هذا هو ما يرغب به مئات ألوف المتظاهرين؟ هل هذا هو التغيير في النظام الذين كانوا يطمحون إليه؟

الرئيس الجزائري المستقيل عبد العزيز بوتفليقة


لم ينحصر طلب تنحية الرئيس بالشباب فحسب، بل تعداه إلى أشخاص من داخل النظام أيضاً، خصوصاً رئيس أركان الجيش الجزائري أحمد قايد صالح، الذي دعا إلى رحيل بوتفليقة على الفور. وهناك شخصياتٍ قوية أخرى، على غرار رئيس الوزراء السابق أحمد أويحيى، قد انضمّوا إلى هذه المجموعة. وكان من المهم أنْ يتنحَّى قبل انتهاء فترة رئاسته رسمياً في 28 نيسان/أبريل. لكن مَنْ سيحكُم الجزائر الآن؟ الحلقة المُغلَقة الغامضة حول بوتفليقة؟ فمنذ إصابته بالنوبة القلبية في العام 2013 سادَ اعتقادٌ أنّ شقيقه سعيد هو مَنْ يُدير البلاد من وراء الكواليس، تُساعِده «عصبة» من المُتعاطفين يُعرَفون بِـ «السُّلطة».
ولم تنحصر أيضاً الاحتجاجات الشعبية بمنع الرئيس من تولّي فترةٍ رئاسية خامسة، لكنّها طالِبت بالمزيد، لكنّ رئيس المرحلة الانتقالية ينتمي أيضاً إلى هذه المؤسّسة ولايُمثِّل بالتالي أي تغيير فعليّ للنظام. فهل هو ذلك الإصلاح الذي نَزَل العديد من الشباب إلى الشوارع وخاطروا بأرواحهم لأجله؟ وقد وعدَ بن صالح، بموجب أحكام الدستور أنّه في غضون أشهر قليلة «سيعمل على تحقيق مصالح الشعب». لكن من المعروف أنّه من الحلفاء الموثوقين للرئيس السابق ولا يُمثِّل إرادة الشعب. 
وممّا لا يدعو للدهشة أنّ الأحزاب المعارِضة رفضت دعم هذا التعيين واحتجَّ آلاف الطلبة مجدّداً في شوارع الجزائر. وكانت ردّة فعل الشرطة عدائية بالقنابل المسيلة للدموع ومدافع المياه – للمرّة الأولى في غضون سبعة أسابيع. وتدعو الحركة الاحتجاجية إلى إطار انتقالي جديد للسلطة وتنظيم انتخابات حرّة. وتعهد الجيش بضمان إجراء انتخابات رئاسية حرّة في 4 تموز/يوليو. هل هي بداية ربيعٍ عربي جديد في الجزائر؟ إنّ مَنْ يُدرِك تاريخ هذه الأُمّة الشمال أفريقية تنتابه الشُّكوك. فمن أجل أن نفهم تماماً طبيعة هذا الشعب، وخصوصاً دور الجيش، علينا أن ننظر في تاريخ الجزائر. فبعد قتالٍ طويلٍ ودموي للحصول على الاستقلال من فرنسا شارل ديغول العام 1962، كانت العهود التالية ملأى بالخلافات. فسرعان ما تبنّت «جبهة التحرير الوطني» الثورية نظامَ حُكْمٍ شبيهٍ بالنظام السوفياتي، من الناحيتَين السياسية والاقتصادية، وأبقَت عليه طوال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. وكان بوتفليقة بدأ مسيرته السياسية في الستينيات كأصغر وزير خارجية في العالم، بصفته مناصِراً لأحد القادة الثوريين في الجزائر. وفي وقتٍ لاحق، أمضى سنوات طويلة في المنفى بعد اتّهامه بفضيحةٍ مالية مع نهاية السبعينيات. ومن ثمّ بدأت الحكومة إصلاحاتٍ اقتصادية لكنّها لم تُظهِر أية دلائل على انفتاحٍ سياسي أكبر حتى سَرَت احتجاجات جماهيرية قُتِلَ خلالها نحو 600 مواطن في العام 1988. 
 

عيَّنَ المشرِّعون الجزائريون رئيس مجلس النواب عبد القادر بن صالح رئيساً جديداً


أمّا الحَدَث الكارثي الشهير فقد وقع في العام 1991 عندما اكتسحَ الحزب الإسلامي الأُصولي «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» الانتخابات البرلمانية العامة المتعدّدة الأحزاب للمرّة الأولى في الجزائر. ورفضَ الجيش الانصياع لـ «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» بتولي السلطة، فنشبت حرب أهلية أخرى دامت نحو 10 سنين، ولم تهدأ إلا بعدما شَعَر الجيش بثقة كافية للسماح بإجراء انتخابات جديدة في العام 1999. وبقيت الحرب الأهلية هذه ماثلة في أذهان جميع الجزائريين البالغ عددهم 40 مليون نسمة. لقد سئموا الموت والتعذيب وانتُخِبَ بوتفليقة أولاً – من دون معارضة. وأطلقَ ترشيحه للرئاسة عملية تطبيع بطيئة، لكنّ الجيش بقِيَ متيقّظاً على الدوام لأي دليلٍ على إعادة استنهاض نشاط الإسلاميين. وحرصت النخبة الحاكمة – وهي مجموعة ذاتية الاختيار من المقرَّبين من حزب الرئيس، و«جبهة التحرير الوطني»، والجيش، وشركة النفط الحكومية، وأجهزة الاستخبارات فضلاً عن «عصبة السُّلطة» – على أنْ تبقى خيوط اللعبة في أيديها.
وعلى الرغم من ضمان الأمن وعدم احتمال استنهاض الإسلاميين على مدى العقود الأخيرة، فإنّ السكّان سادهم على مر الزمن الفساد، وسوء الإدارة واضمحلال الأمل. وسعى الرئيس بوتفليقة إلى تهدئة المعارضين وذلك بتشكيل حكومة جديدة تحت قيادة رئيس الوزراء الجديد، وزير الداخلية السابق، نور الدين بدوي، وقد وَعَد باتّخاذ «قرارات مهمة». وبقي الوزراء الذين عيَّنَهم الرئيسُ السابق في مناصبهم لأشهر عديدة. 
أمّا رئيس الوزراء الذي سمّاه بوتفليقة فهو الرجل الذي نظَّمَ الانتخابات التشريعية المتلاعَب بها في العام 2017 وقد واجه الاحتجاجات بعنف مفرط. وعلى الرغم من أنّ الحكومة الموقتة التي يرأسها بدوي والرئيس الموقت بن صالح تتولَّى شكليّاً الآن المسؤولية، فإنّ الجيش يحيطها برقابة شديدة فلطالما كان هو حَكَم الحياة السياسية منذ الاستقلال عن فرنسا في العام 1962. فهل سيسمح بانتقالٍ سريع إلى ليبرالية كاملة أو إسلامية أسوأ؟
لقد استيقظ شعب الجزائر بعد فترةٍ طويلة من السُّبات الوطني، محتجّاً ومطالباً بنهاية حُكْم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي امتدَّ 20 سنة، وكذلك بإنهاء «نظامه». 
وكانت الثورة حتى الآن سِلميّة ورحلَ الرجل بكرسيه ذي العجلات. لكن مَنْ يملأ الفراغ؟ لقد فاز المحتجّون في أكبر دولة أفريقية أكثر ممّا حقّقه أمثالهم في الدول العربية المجاورة خلال الربيع العربي للعام 2011.
 

رئيس أركان الجيش الجزائري أحمد قايد صالح، الذي دعا إلى رحيل بوتفليقة على الفور


سيبقى المشهد السياسي حتى الرابع من تموز/يوليو بانتظار التغيير الجذري. وتجري لقاءات للسياسيين المعارضين ومجموعات من المجتمع المدني في الجزائر لوضع تصوُّرٍ لمستقبل البلاد. وثمة شخصيات من أمثال محامي حقوق الإنسان مصطفى بوشاشي بإمكانها أنْ تلعب دوراً طليعياً في المستقبل. لكنّ غياب ثقافة الأحزاب السياسية، المتباينة على وجه الخصوص، إنّما تعوق إجراء حملة انتخابات سياسية حقيقية في هذه الدولة العربية. فمثل هذه المشكلة هو ما أجهضَ الثورة في مصر. فالمعارضة الليبرالية، ولو أنّها ليست على القدر ذاته من الرسوخ والانتظام، لم تتسنَّ لها فرصة مواجهة «الإخوان المسلمين» خلال الانتخابات البرلمانية. وتماماً كما في مصر مع الفريق السيسي، كذلك الأمر في الجزائر مع الجنرال بن صالح الذي يبقى حالياً إلى جانب الحشود. لكن إلى متى؟ هل باستطاعة الجيش أن يحكم بمواجهة النخبة الحاكمة منذ أمدٍ طويل من أعضاء العائلة [عائلة بوتفليقة]، ورجال الأعمال والاستخبارات السرّية؟ ثمة الكثير ممّا قد تخسره تلك النخبة وهي حتماً ستحاول الحفاظ على امتيازاتها. وتأتي الجزائر عالمياً في المرتبة 18 من ناحية إنتاج النفط وهي عضو في منظّمة «أوبك». ويتألّف 90 بالمئة من صادراتها من النفط والغاز. وثمة عملاء رئيسيون أمثال الصين وفرنسا يوفرون تدفقاً للأموال يزيد على 30 مليار سنوياً. وتلك الأموال يتعيَّن تقاسمها!
إنّ رحيل الرئيس بوتفليقة قد يكون نهاية نظامٍ أوتوقراطي سُلطوي وبداية مستقبل «نفطي ذهبي» في هذه المستعمرة الفرنسية السابقة. وتبلغ نسبة الشباب الذين تقلّ أعمارهم عن 30 عاماً نحو 65 بالمئة من السكّان، وهم يأملون بـ «ربيعٍ جزائري» ثانٍ وناجحٍ. لكنّ المواطنين الأكثر خبرة يخشون بداية نزاعٍ جزائري جديد! إنّ الأشهر المقبلة ستُظهِر ما إذا كان الاستقرارُ سيجعل الديموقراطية تسود!
 

تدعو الحركة الاحتجاجية إلى إطار انتقالي جديد وتنظيم انتخابات حرّة
تاريخ المقال
العدد
العدد حسب الاشهر
السنة
2019
رقم الصفحة
13

أخر المقالات