أمن البحر الأسود خلال الأزمة الأوكرانية

المترجم

ما من شك بأن العملية العسكرية الروسية المتواصلة في أوكرانيا تؤثر بشدة على باقي الدول المنتشرة على شواطئ البحر الأسود: بلغاريا، وجورجيا، ورومانيا وتركيا. وقد وضع التفاقم العسكري الأخير هذه الدول في موقعٍ صعب، وعلى الأخص تركيا، التي تؤدي دور حفظ السلام أو وسيط السلام، وهو ما تتجاهله روسيا كلياً. وقد سلط أوجين كوغان، الخبير الجورجي بشؤون الأمن والدفاع في شرق أوروبا، الضوء على هذا الواقع في نشرة «يوروبيان سيكيورتي أند ديفنس» المتخصّصة.

وكان وزير الدفاع الروماني فاسيلي دينكو قد أعلنَ مطلع هذا العام بأن «روسيا في الوقت الراهن لا تُشكّل تهديداً مباشراً لرومانيا، لكن ربما تهديداً للأمن في منطقة البحر الأسود بأكملها». ولا يوافق المؤلف على ما قاله الوزير إذ إن الجيش الروسي، المتمركز في شبه جزيرة القرم «كريميا» المحتلة - على بعد لا يزيد عن 100 كيلومتر من دلتا نهر الدانوب – هو ما يشكل تهديداً مباشراً لرومانيا، ولو أن المسؤولين الروس يلومون الطرف الآخر بأنه هو مَن يشكّل تهديداً لروسيا. وعلاوة على ذلك، فإن الدول الإقليمية الثلاث الأعضاء في حلف شمال الأطلسي «الناتو» (NATO)، وتحديداً بلغاريا ورومانيا وتركيا، كانت حتى تاريخه غير قادرة على وضع وتطبيق استراتيجية أمنية شاملة للبحر الأسود إلى جانب الدولتين الطامحتين إلى دخول حلف الأطلسي، جورجيا وأوكرانيا، لمواجهة التحديات التي تفرضها روسيا، لكنّ هذه الأخيرة طبقت بنجاح سياستها «فرِّق تَسُد» في المنطقة.

بلغاريا

على الرغم من الضغوط التي مورست على بلغاريا للمصادقة على معاهدة وُقّعت مع جارتها رومانيا في 18 آذار/ مارس العام 2021 من شأنها أن تسمح لأعضاء حلف شمال الأطلسي «الناتو» إجراء عمليات خفر ومراقبة جوية عابرة للحدود، فإن الحكومة البلغارية الانتقالية والأخرى الجديدة لم تُقدِما على ذلك. وعلى الرغم من أنّ رومانيا دعمت تقليدياً المبادرات لتعزيز الجهود العسكرية المتعددة الجنسيات لحلف الأطلسي في منطقة البحر الأسود، فإنّ بلغاريا كانت أكثر تردداً. وهذا يعود، من بين عوامل أخرى، إلى التقارب التاريخي مع روسيا والمصالح الاقتصادية الروسية في بلغاريا. ويجدر التذكير بأنّ 70 بالمئة من احتياجات بلغاريا من الغاز و 90 بالمئة من احتياجاتها النفطية إنما يتم استيرادها من روسيا. وإضافة إلى ذلك، تقوم روسيا بإمداد محطة المفاعل النووي «كوزلودوي» (Kozloduy) في بلغاريا بالوقود. ونتيجة لذلك، تقع بلغاريا تحت الضغوط إذ إنها لم تتمكّن من تنويع وارداتها من الغاز إلا قليلاً وفشلت في تنويع وارداتها من النفط كلياً.

وكان المسؤول الدفاعي الروماني السابق وخبير الأمن الدولي كلاوديو ديغيراتو، تحدّث أيضاً عن «تردد بلغاريا وتركيا في مشاركة المعلومات حول مجاليهما الجويين مع الحكومات الأخرى في المنطقة». وإضافة إلى ذلك، كانت تركيا ولا تزال مترددة في ما يتعلق بوجود عسكري غربي في البحر الأسود وهي تقيم روابط وثيقة لكن معقدة مع روسيا. كل ذلك على الرغم من أن الدول الثلاث هي أعضاء في حلف الأطلسي، وهذا ما يزيد من تعقيدات الوضع.

وما أن يُصادق على المعاهدة المنوه عنها أعلاه فإنها ستسمح لـ «القوات الجوية التابعة لحلف الأطلسي» المتمركزة في القاعدة الجوية الرومانية Mihail Kogalniceanu إجراء عمليات خفر ومراقبة في كلا البلدين. وهذه القاعدة الجوية التي تقع بالقرب من البحر الأسود هي المحور الرئيسي لمقاتلات حلف الأطلسي في جنوب شرق أوروبا. وأحدث وزير الدفاع الجديد في البلاد ستيفان يانيف ردة فعل سلبية في كانون الأول/ ديسمبر 2021 بعدما نفى الحاجة إلى مزيد من الجنود الأطلسيين في بلغاريا في سياق التوتر المتزايد بين حلف الأطلسي وروسيا إزاء مسألة أوكرانيا. وقال يانيف: «إن التوترات المتزايدة تستدعي مقاربة موحدة من قِبل حلف الناتو، لكن ذلك قد يفضي إلى توترات متفاقمة ومتصاعدة غير ضرورية مع روسيا. وفي هذه المرحلة ما من مبرر لاعتبار عمليات الخفر والمراقبة بمثابة تهديد مباشر لحلف الناتو والمنطقة الأمنية التابعة له. وفي هذا الإطار، لا أعتقد أن ثمة ظروفاً ضرورية تحتّم تبرير اتخاذ قرار يتصل بنشر جنود إضافيين (أطلسيين) في أراضينا. ومثل هذا القرار لا يتصل أبداً بمصالح الحلف ولا بالمصالح الوطنية لبلغاريا».

وأعلن رئيس الوزراء البلغاري كيريل بيتكوف في مطلع هذا العام: «إنّ بلادنا مستعدة لقبول جنود من الدول الشريكة في حلف الأطلسي لكن ضمن مجموعة قتالية لكتيبة مشتركة مع الجنود البلغاريين. هذا يشكل جزءاً من الموقف البلغاري الرسمي حيال الأزمة في أوكرانيا الذي تتبناه الحكومة». وذلك بعد الجدال بين الشركاء في الائتلاف الحكومي.

سفن الناتو تجري مناورات عسكرية مع القوات الأوكرانية في البحر الأسود
جورجيا

تحاول القيادة السياسية في البلاد الحفاظ على علاقات جيدة مع حلف «الناتو». ومع ذلك، فإنها في الوقت ذاته تبذل قصارى جهدها لاستفزاز إدارة الرئيس بوتين. ويُظهر هذا الموقف الساعي إلى التوازن الوازن مدى التردد والعجز في التوصل إلى القرار المناسب. وهناك سوء فهم داخل «الحكومة الائتلافية الجورجية» الواهمة، وهو بأن موسكو إذا ما أحرزت أهدافها في أوكرانيا، فإنّ هدفها التالي سيكون جورجيا، حيث لدى «الكرملين» أمور غير منجزة يتعين استكمالها بعد نهاية حرب آب/ أغسطس 2008.

وعلى الرغم من التحسينات التي أجرتها جورجيا على قواتها البرية، فإنها تفتقد إلى قوات احتياط، وقوات جوية وبحرية مدربة تدريباً حسناً لدعم قواتها البرية و«الحرس الوطني» في أي حالة حرب. فخفر السواحل في البلاد غير مجهز لخوض أي نزاع عسكري أو حرب لأن ذلك ليس من مهامه، بل ليس ثمة آليات لضمان حماية الساحل الذي يمكن اجتياحه بسهولة أو فرض حصار عليه من قِبل روسيا. ونتيجة لذلك، تبقى جورجيا ضعيفة أمام أي هجوم بحري روسي.

ولم يتضح بعد ما إذا كان بالإمكان تجهيز وتدريب قوة بحرية وازنة. فمثل هذا البرنامج سيكون مكلفاً جداً لبلد صغير مثل جورجيا، ومن غير المؤكد حالياً ما إذا كانت المملكة المتحدة والولايات المتحدة ستُقدمان الدعم المالي. وإضافة إلى ذلك، تفتقر البلاد إلى عدد كاف من أنظمة الدفاع الجوي التي بإمكانها أن تصد هجوماً من سلاح الجو الروسي. وأخيراً، تبقى جورجيا عرضة لهجمات سيبرانية روسية، حتى ولو أنها كانت قد اختبرت في السابق هجمات سيبرانية روسية. وخلاصة القول، ليست جورجيا مستعدة عسكرياً للتصدي لأي اعتداء روسي محتمل، ويدرك «الكرملين» أن بإمكانه أن يؤدب جورجيا ويواصل من دون عائق عملية فرض رسم الحدود على طول خط الحدود الإدارية بين وسط جورجيا ومنطقة جنوب «أوسيتيا» الخاضعة للاحتلال الروسي.

 أمن البحر الأسود بين مطرقة روسيا وسندان الأطلسي
رومانيا

تُعرّف «الاستراتيجية الدفاعية الوطنية الرومانية» للأعوام 2020-2024، التي وقعها الرئيس الروماني كلاوس يوهانس في حزيران/ يونيو العام 2020 وصادق عليها البرلمان في الشهر ذاته، موسكو بكونها تهديداً «عدوانياً». وتؤكد الاستراتيجية الدفاعية المقترحة بأن روسيا قد أسهمت في «زعزعة الاستقرار الإقليمي بمواقفها الهجومية والعدوانية في السنوات الأخيرة». وتضيف بأنّ موسكو قد سعت إلى تعزيز «قدراتها العسكرية الهجومية في البحر الأسود» وقد استحدثت نظاماً قادراً على «منع الدخول» إلى البحر الأسود بغية موازنة تطور قدرات حلف الأطلسي على الحدود الشرقية لهذا الحلف. وكما كان متوقعاً، رفض «الكرملين» بشدة هذه الاتهامات وادعى أن الاستراتيجية الرومانية الجديدة قد تُستخدم لتكثيف الحضور العسكري للولايات المتحدة والحلف الأطلسي في البحر الأسود. وعلاوة على ذلك، أعلنت الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أنّ «بوخارست بدلاً من أن تكون مصدراً للاستقرار فهي تساهم في زيادة حدة التوتر والانشقاق في المنطقة. وأوضح وزير الخارجية الروماني بوغدان آوريسكو Bogdan Aurescu بأنّ «رومانيا لا تعتقد بأن روسيا هي دولة معادية لها، بل إنّها تُلفت الانتباه فحسب إلى الأفعال العدوانية التي اقترفتها روسيا في السنوات الأخيرة، وبعضها ينتهك القانون الدولي». ورفضت موسكو رفضاً قاطعاً تصريحات آوريسكو.

روسيا

من أجل مضايقة رومانيا على وجه الخصوص، ضاعفت الطائرات الروسية من دورياتها فوق البحر الأسود، وبعضها يخترق من حين إلى آخر المجال الجوي الروماني. وفي تموز/يوليو العام 2018، اعترف وزير الدفاع أنذاك ميهاي فيفور بأنّ التوغلات الروسية في المجال الجوي الروماني قد ازدادت. ولم يتحسن الوضع من ناحية الاختراقات الجوية الروسية للمجال الجوي الروماني. فعلى سبيل المثال، تسارعت عمليات مقاتلات «تايفون» TYPHOON التابعة لـ «سلاح الجو الملكي» في إطار مهمة «الخفر الجوية الأطلسية المعززة» (NATO Enhanced Air Policing) في آب/ أغسطس من العام 2021 بعد رصد مقاتلات روسية تدخل «منطقة معلومات القتال لبوخارست» متوجهة نحو المجال الجوي الإقليمي الروماني. وفي ظل التحليقات العسكرية الروسية العديدة، وبافتقاد خطة لطيران المقاتلات الأطلسية وعدم تواصلها مع «مركز مراقبة الحركة الجوية الروماني»، أحدث ذلك حالة من الخطر لسلامة الطيران لجميع مستخدمي المجال الجوي.

وكان الهدف الإجمالي الروسي في البحر الأسود هو بذر الشقاق في ما بين الحلفاء الأطلسيين، بلغاريا ورومانيا وتركيا، وعزل وإخضاع جورجيا لإرادتها وزعزعة استقرار أوكرانيا باغتنامها لنقص الحضور الاستراتيجي الأطلسي الشامل هناك.

ولأجل فرض أهداف روسيا في البحر الأسود «أعلنت «المنطقة العسكرية الجنوبية» الروسية في كانون الثاني/ يناير من العام 2022 أن أسطول البحر الأسود التابع للبلاد سيقوم بعمليات خفر كبيرة في مياه البحار بالقرب من الأراضي الروسية، فضلاً عن مناطق مهمة عملانياً في المحيط العالمي.

وحذر خبراء عسكريون من أن السفن الحربية وغواصات أسطول البحر الأسود قد تلعب دوراً كبيراً في أي نزاع أوكراني، مهددة المدن الساحلية الأوكرانية، وعلى الأخص «بيرديانسك»، و«ماريوبول» و«أوديسا»، والبنية التحتية العسكرية بضربات صاروخية، واستخدام أنظمة الحرب السيبرانية والإلكترونية.

طوافتا  UH-60 Blackhawkأثناء إجراء تمارين في قاعدة Novo selo البلغارية
تركيا

على الرغم من أن الرئيس التركي أردوغان عرض التوسط بين الرئيسين الروسي والأوكراني، فلاديمير بوتين وفولوديمير زيلينسكي، في كانون الثاني/ يناير 2022، لم يبدِ بوتين ميلاً لقبول هذا العرض. وقال أردوغان في حينه إن «النزاع في شرق أوكرانيا يجب حله على أساس سلامة أراضي أوكرانيا» ورفضَ «الاحتلال الروسي غير الشرعي لكريميا» - وهذا ما جعله وسيطاً غير حيادي من وجهة نظر «الكرملين». وبذل أردوغان قصارى جهده لإرساء توازن بين التزام تركيا تجاه حلف الأطلسي كحليف موثوق، وعلاقاته الودية مع الجانبين المتنازعين. ومع ذلك، فإن هذا التوازن ليس متاحاً بسهولة إذ إنّ أردوغان لا ينوي اتخاذ قرار حاسم، وسيمضي بتركيا إلى موقع الحياد. وهذا كان هدف بوتين وما يزال، إبقاء تركيا أردوغان فاعلاً حيادياً حول منطقة البحر الأسود بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.

أوكرانيا

وجدت البلاد نفسها في موقع صعب وسط التجاذب الشديد بين روسيا والأطلسي، إذ إن بوتين يطالب بضمانات واضحة وملزمة من حلف الأطلسي بأن لا تصبح أوكرانيا عضو فيه. وكما شهد العالم منذ بدء غزو روسيا لأوكرانيا في 24 شباط/ فبراير من هذا العام، تخوض أوكرانيا قتالاً ضروساً لأجل استقلالها وسيادتها. وكما يبدو واضحاً أن «الكرملين» قد أخطأ في حساباته وقلل من شأن مناعة «القوات المسلحة الأوكرانية» والسكّان المدنيين وقدرتهم على المقاومة. فإذا ما ظنت موسكو بأن غزوها لأوكرانيا ستكون خطوة سهلة، فقد أخطأت كثيراً في حساباتها.

ولا بد من الإشارة إلى أن أوكرانيا غارقة بالحرب منذ آذار/ مارس من العام 2014 وقواتها البرية مجربة ميدانياً وذات خبرة. ومع ذلك، تبقى المشكلة الرئيسية في أوكرانيا هي افتقارها إلى أنظمة جوية مقتدرة في ظل سلاح جو ضعيف وبحرية أضعف، فيما تملك روسيا قوات مسلحة متفوقة، وقوات جوية وبحرية أكثر اقتداراً، فيما تبقى أوكرانيا خلف روسيا في قدرات الأمن السيبراني، على الرغم من كل التحسينات التي نُفذت.

ولا يمكن الجزم بأن عدم التوازن هذا في القوى العسكرية سيؤدي إلى هزيمة سريعة لأوكرانيا في حربها مع روسيا، لكن ما هو معروف اليوم أن أوكرانيا تقاوم الغزو الروسي لوحدها، إذ إنها ليست عضواً في حلف الأطلسي على الرغم من تلقيها المساعدات العسكرية منه. وفي اعتقادنا، فإن روسيا قد تربح المعركة ولكنها ستخسر الحرب.

خاتمة

يبدو جلياً أن مياه البحر الأسود الهادئة دوماً قد أصبحت مضطربة وعاصفة جداً في فترة قصيرة من الزمن مع قدرة روسيا الهجومية على التحرك حربياً من قاعدتها البحرية المحصنة لأسطول البحر الأسود المتمركز في «كريميا» و«المنطقة العسكرية الجنوبية» في «روستوف». إن أوكرانيا تقاتل بضراوة إذ إنها تعلم ما هو ثمن الاستسلام؛ أي أن تصبح رهينة روسيا بوتين في المستقبل المنظور. وبالنسبة إلى الدول الثلاث الأعضاء في حلف الأطلسي في المنطقة، فطالما بقيت غير متورّطة مباشرة في هذا النزاع، فإنها ستتصرف على نحو مختلف لكونها تفتقر إلى موقف مشترك. ويمكن تلخيص موقف الحكومة الجورجية كالآتي: عدم اتخاذ أي موقف وتجنب الإفصاح عن قرار واضح. وهذا الغموض الاستراتيجي لن ينقذ جورجيا إذا ما حققت موسكو أهدافَها في أوكرانيا.

 بذل  الرئيس التركي أردوغان قصارى جهده لإرساء توازن بين التزام تركيا تجاه حلف الأطلسي كحليف موثوق، وعلاقاتها الودية مع روسيا و أوكرانيا
المستخدم النهائي
منتجات
تاريخ المقال
العدد
العدد حسب الاشهر
السنة
2022
رقم الصفحة
48

أخر المقالات