العقيدة البحرية الروسية الجديدة: تحوُّل من المحيط الأطلسي إلى المحيطين المتجمد الشمالي والهادئ

المترجم

في ظل الخسائر المحرجة التي تكبدها «أسطول البحر الأسود» الروسي في الحرب الدائرة في أوكرانيا، وضعت روسيا خططاً طموحة لتحسين قدراتها للوصول إلى أعالي البحار وتوسيع أسطولها البحري. لكن نظراً للعوائق التكنولوجية والأخرى الخاصة بالميزانية، هل بإمكانها حقاً أن تحقق تلك الطموحات؟ هذا ما يسلط عليه الضوء طايفون أوزبيرك، المحلل التركي للشؤون الدفاعية والبحرية.

شهد «أسطول البحر الأسود»، ذو القيمة الكبيرة لدى روسيا، المناط به مهام ضمان بقاء الخطوط البحرية الحيوية تحت السيطرة والنفوذ الروسيين، انتكاسات كبيرة حصلت خلال الحرب الدائرة في أوكرانيا. وفيما لا يضاهي عدد السفن الروسية المدمرة أبداً عدد الدبابات، والعربات المدرعة، وأنظمة الصواريخ سطح-جو SAM، فقد ارتفعت الأضرار والخسائر في الأشهر الأخيرة بفعل هجمات عنيفة مباغتة لـ «عربات جوية غير آهلة» (UAV) أوكرانية ومسيّرات بحرية غير متطورة، التي يعتقد أنها ألحقت أضراراً بالسفينة الطليعية في «أسطول البحر الأسود»، أي «أدميرال مكاروف» Admiral Makarov.
وواقع أنّ السفينة الطليعية السابقة في «أسطول البحر الأسود»، أي المدمرة «موسكفا» Moskva، قد أُغرقت بصاروخين مضاددين للسفن من طراز «نبتون» Neptune أُطلقا من الساحل الأوكراني في 14 نيسان/ أبريل العام 2022، وأن البحرية الروسية انسحبت من جزيرة «سنايك» Snake المهمة من الناحية الجيو-استراتيجية قبالة «أوديسا»، إنما ضاعف فحسب من التهديدات البحرية الروسية ضد أوكرانيا. وتصبح هذه الهزائم أكثر وقعاً حينما نأخذ في الاعتبار أن أوكرانيا لا تملك بحرية ذات شأن يُذكر. فقد خسرت %80 من سفنها بعد احتلال «كريميا» في العام 2014.
وكانت خسائر روسيا البحرية في الحرب الدائرة في أوكرانيا كافية لإجبار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تبنّي «عقيدة بحرية» جديدة خلال «يوم البحرية» في 31 تموز/يوليو العام 2022 في مدينة «سانت بيترسبورغ». وكان آخر تحديث لـ «العقيدة البحرية» الروسية قد جرى خلال صيف العام 2015 عقب الإلحاق غير الشرعي لِـ «شبه جزيرة القرم» «كريميا» الأوكرانية إلى روسيا الاتحادية.
لكن عقب إقدام روسيا على غزو أوكرانيا، اضطرت موسكو مجدداً لتعديل استراتيجيتها البحرية لكي تُجاري أحدث التطورات. وعقب هجوم أوكرانيا في 29 تشرين الأول/أكتوبر على سفن «أسطول البحر الأسود» في قاعدة «سيفاستوبول» Sevastopol البحرية باستخدام مسيّرات بحرية غير آهلة، نقلت روسيا موقع سفنها البحرية إلى «نوفوروسيسك» Novorossiysk، أحد أكبر الموانئ في البحر الأسود، لتُثبت أنّها تتحرّك لحماية سفنها الحربية ضد أية هجمات أخرى. ويقول سيدهارث كاوشال Sidharth Kaushal، الباحث المختص بالقوى البحرية لدى «معهد الخدمات الملكية المتحدة» (RUSI)، إن «العقيدة البحرية» الروسية الأحدث قلما تنطوي على ما هو جديد من الناحية الجوهرية. ويوضح كاوشال: «إنّ التركيز على حلف شمال الأطلسي NATO، على سبيل المثال، كان واضحاً بالفعل في العام 2015. ومع ذلك، فإن قدرة روسيا على تأمين الموارد لتحقيق طموحاتها البحرية ومواصلة إنتاج قدرات مثل غواصات «ياسين» Yasen ستكون مقيّدة على الأرجح في بيئة تتسم بمقايضة الموارد».
كما أوجز كاوشال بأن هناك بعض التحولات اللافتة - مثل التركيز على قدرة التعبئة والحشد وتخصيص حيز كبير للبنية التحتية المدنية، على سبيل المثال لا الحصر. ويتابع القول: «ربما يعكس ذلك أمل روسيا من أن تتمكّن من جعل «طريق بحر الشمال» Northern Sea Route (NSR) شرياناً أساسياً يمكن من خلاله نقل وبيع الطاقة إلى الصين، فيما تعيد السوق الروسية توجهها شرقاً».

المدمرة «موسكفا» Moskva، التي أُغرقت بصاروخين مضاددين للسفن من طراز «نبتون» Neptune أُطلقا من الساحل الأوكراني في 14 نيسان/ أبريل العام 2022
تجنب تضييق الخناق الاقتصادي

تُوضح «العقيدة البحرية» الروسية الجديدة بجلاء واقع أن السيطرة الأميركية على المحيطات العالمية إنما تُشكّل التهديد الأعظم للأراضي الوطنية الروسية، التي تمتدّ سواحلها لنحو 4,000 كيلومتر. كما أنها تسلط الضوء على مصالح روسيا البحرية من الناحيتين الاقتصادية والسياسية. ومع ذلك، وعلى الرغم من حدودها البحرية المترامية الأطراف، فإن روسيا تفتقد للوصول المباشر إلى المحيط المفتوح. وقد خسرت معظم بُنى موانئها التحتية وقدرتها على الوصول إلى الطرق التجارية عقب انهيار الاتحاد السوفياتي السابق. وقد حددت روسيا افتقارها لقدرات الوصول إلى البحار كضعف استراتيجي وهي تدرك الحاجة الضرورية إلى تطوير برنامج بحري قوي لتعويض ذلك. كما أنها ترى قدرات الوصول إلى البحار كفرصة لتجنب تضييق الخناق الاقتصادي والعزلة الاجتماعية.
وثمة هدف مزدوج لعقيدة روسيا البحرية الجديدة. الهدف الأول هو تصنيف دقيق للمناطق البحرية استناداً إلى مدى أهميتها بالنسبة إلى روسيا. فأكثر ما يُشكّل تأثيراً مباشراً على تطور اقتصاد البلاد يتمثل في المياه الإقليمية الروسية، و«المنطقة الاقتصادية الحصرية»، والحافة القارّية، و«الحوض القطبي الشمالي» (Arctic Basin)، و«طريق بحر الشمال»، فضلاً عن بحر «آزوف»، والبحر الأسود، والقسم الشرقي من البحر الأبيض المتوسط، و«بحر البلطيق»، ومضيق «كوريل» Kuril قبالة اليابان. يشكل «البحر الأسود» و«بحر البلطيق» المنفذان الرئيسيان لروسيا، وأي وجود لبحريات لدول أخرى فيها يُشكّل تهديداً مباشراً لها، وهو ما تستعد بحريتها لمواجهته وفق المقتضى.
وفيما كانت «العقيدة البحرية» الروسية في العام 2015 تتمحور حول المحيط الأطلسي، فإنّ التعديل الأحدث لها يتركز على «المحيط المتجمد الشمالي» والمحيط الهادئ، وهذا ما يُظهر رغبتها في الوصل ما بين هذين المحيطين لتعزيز مكانتها كقوة بحرية عالمية. وتنظر موسكو إلى «طريق بحر الشمال»، الممتد من «رأس الشمال» North Cape أقصى شمال النروج وإلى «مضيق بيرينغ» Bering الذي يفصل بين أقصى شرق روسيا وآلاسكا الأميركية، ويصل بين «المحيط المتجمد الشمالي» والمحيط الهادئ، كوسيلة للاحتفاظ بتنافسيتها في السوق العالمية.
كما أن هذه السياسة تأخذ في عين الاعتبار استحداث مجمّع أحواض لبناء السفن، وبناء حاملات طائرات، وتأسيس محطة لتسييل الغاز الطبيعي في الشرق الأقصى. وتنادي أيضاً لتطوير أكثر فعالية للموارد الطبيعية في الحافة القارية، بما في ذلك مضاعفة المعرفة الجيولوجية في «بحر اليابان»، و«بحر أوخوتسك» Okhotsk الذي الواقع بين شبه جزيرة «كاماشتكا» الروسية و«جزر كوريل» و«جزيرة هوكايدو» اليابانية من ناحية الجنوب، و«جزيرة سخالين» في الغرب، والساحل السيبيري الشرقي من ناحية الغرب والشمال، و«بحر بيرينغ».
ويقول صمويل بينديت Samuel Bendett، باحث ومحلل لدى «مركز مجموعة الشؤون الدولية للأبحاث البحرية» (Center for Naval Analyses International Affairs Group)، إن إحدى أولويات روسيا هي اليوم مضاعفة حجم الأبحاث العلمية الأساسية والتطبيقية المتصلة بالبيئة البحرية، من بينها دراسة الأنهار الجليدية في «القارة القطبية» الجنوبية، وجزر «القطب المتجمد الشمالي» قبالة ساحل الاتحاد الروسي وحافته القارية، فضلاً عن تحديث سفن الأبحاث الحالية وإنشاء أخرى جديدة. ويضيف بينديت: «تهدف الأبحاث العلمية البحرية إلى الاستحصال على معرفة منهجية حول «المحيط العالمي»، وإنتاجيّته الأحيائية وموارده من الأملاح والخامات المعدنية لصالح التطوير المستدام وتعزيز الأمن القومي الروسي».
لكن تبقى أسئلة إزاء ما إذا كانت روسيا تملك الموارد لمثل هذا الالتزام الموسع في ظل الحرب المتواصلة في أوكرانيا. وهي تُولي «العقيدة البحرية» الروسية الجديدة اهتماماً كبيراً بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتهدف إلى تطوير محطات مستقلة تبث المعلومات عبر السواتل والقنوات الصوتية المائية، وتطوير نظام معلومات أمنية واتصالات موحّدة لصالح وسائل النقل الروسية في المحيط المتجمد الشمالي، بما في ذلك إنشاء خط اتصالات ألياف بصرية تحتمائية عابرة للمحيط المتجمد في القطب الشمالي.
 

شهد «أسطول البحر الأسود»، ذو القيمة الكبيرة لدى روسيا، انتكاسات كبيرة حصلت خلال الحرب الدائرة في أوكرانيا
الوقت، والمال والتكنولوجيا المطلوبة

يتابع بينديت: «تنشد العقيدة الجديدة تكنولوجيات ومنصات رقمية متقدمة للسفن، والمدمرات والبيئة البحرية؛ وبلورة المعلومات المطلوبة، وتطوير تطبيق التكنولوجيات ذات الأولوية من أجل تحديث أنظمة أسلحة واعدة ومعدات خاصة ذات صلة». لكن من أجل نجاح خطة روسيا البحرية، عليها أن تستثمر في القطاع البحري وتستحدث تكنولوجيات جديدة في غاية التطور. ولا بد بداية من أن تُنشئ أسطولاً بحرياً وتجارياً قوياً. وتلحظ استراتيجية تطوير بناء السفن الروسية، الممتدة حتى العام 2035، إنشاء 250 سفينة نقل بحري وأكثر من 1,500 سفينة نقل نهري-بحري. وتملك البحرية الروسية حالياً قرابة 70 غواصة فضلاً عن ما يزيد على 200 سفينة سطح حربية وزوارق دفاعية (من بينها حاملة طائرات حربية سوفياتية ثقيلة). وعلى الرغم من أن اقتدار سفن السطح الحربية تلك، فإنها أصبحت متقادمة ومن المقرر إحالة عدد كبير منها على التقاعد.
أما الأسطول التجاري فيتألف فحسب من 1,400 سفينة روسية وأخرى ترفع أعلاماً أجنبية، تبلغ زنتها الإجمالية 22.3 مليون طن. وما يثير الدهشة أن الأسطول التجاري الروسي يمثل فقط %0.1 من تدفق الشحن على مستوى العالم. وتحتاج روسيا إلى تكنولوجيات مستقلة لتعزيز قدرات أسطولها، لكن بناء السفن يعتمد بشدة على الواردات. وتمثل المكونات الأجنبية ما بين %40 و %85 من إجمالي القطاع المدني.
وبسبب الافتقار إلى الموارد ووجود أحواض بناء سفن متقادمة، فسيُشكّل ترميم وبناء سفن سوفياتية ضخمة صعوبة حتماً. ويمكن لشركات أحواض بناء السفن أن تحقق فقط جزءاً من طموحاتها بسبب وضعها المالي المستقل. ومن بين المخاطر الأكثر جدية التي تطال النشاط البحري الروسي، الافتقار لقواعد أجنبية لمساعدة العمليات في الأماكن النائية والأخرى التي يصعب الوصول إليها بحرياً. وفي نهاية المطاف، ستحتاج روسيا إلى الوقت، والمال، والتكنولوجيا لتوسيع نطاق وجودها البحري. وفيما سيُشكّل التمويل المسألة الضاغطة الأكثر إلحاحاً، فإن الخسائر المتكبّدة في أوكرانيا قد سلطت الضوء على عيوب كبيرة في مجالات أخرى، على غرار الجهوزية العملانية، واللوجستيات، والقيادة، والتدريب. ويمكن القول على وجه الخصوص، واستناداً إلى واقع أنّ أوكرانيا كانت قادرة على ضرب سفن تابعة لـ «أسطول البحر الأسود» الروسي في أحد الأماكن الأكثر أماناً، أي قاعدة «سيفاستوبول» البحرية، إنما يُظهر أنّ البحرية الروسية تعاني مشكلات واضحة في أساسيات الحرب البحرية.

تعمل روسيا على تأمين الموارد لتحقيق طموحاتها البحرية ومواصلة إنتاج قدرات مثل غواصات «ياسين» Yasen
الجهوزية المنخفضة

إذا ما أخذنا في الاعتبار الإصابات الأخيرة الناتجة عن هذا الهجوم وغيره من الهجمات التي سبقته، فهناك حاجة إلى أكثر من عقيدة بحرية من أجل مواجهة المشكلات التي تؤثر مباشرة على مصير الحرب، كمثل التدريب واللوجستيات. لكن المحلل كاوشال يعتقد أن السبب الرئيسي وراء هذه الإخفاقات هو الجهوزية الروسية المنخفضة.
ويقول: «بالنسبة إلى أداء «أسطول البحر الأسود»، فإنني أعزو إخفاقاته الأولية إلى الجهوزية المنخفضة. فقد كانت السفينة Moskva على سبيل المثال تملك راداراً مقطوراً خلفها عند إصابتها، ولم تكن قد حظيت بإعادة تجهيز ضرورية كانت لتُجدّد، من بين أشياء أخرى، أنظمة إدارة الرمي فيها». غير أن الخسائر في «أسطول البحر الأسود» لا تعكس بالضرورة أي فشل في العقيدة البحرية، على حد قول كاوشال، لكنها تظهر حقاً الصعوبات التي ستواجهها روسيا في استحداث قدرات لتحقيق طموحاتها.
وربما تكون الخسارة الأكبر التي لحقت ببحرية روسيا في الحرب الروسية - الأوكرانية هي سمعتها. ويمكن اعتبار أي تغيير في عقيدتها البحرية كخطوة نحو الأمام لترميم تلك السمعة، لكن الوقت سيثبت كيف ستُطبّق البحرية الروسية مبادئ العقيدة في عمليات حقيقية من أجل استعادة قوتها الرادعة.

الغواصة الروسية Borei-class K550
تاريخ المقال
العدد
العدد حسب الاشهر
السنة
2023
رقم الصفحة
48

أخر المقالات