حرب المسيّرات في أوكرانيا

المترجم

تشهد الحرب الروسية الدائرة في أوكرانيا استخداماً متزايداً للمسيرات التجارية لتوجيه ضربات حيثما تعجز الأسلحة التقليدية. وقد تناولت أنيتا هاوسر Anita Hawser، واقع المسيرات، تقصياً لشركة أوكرانية ناشئة طورت أعمالها في صنع المسيرات التجارية لاستطلاع الأماكن الخطرة والعصية على الوصول، وهي تعمل الآن على تطوير مسيرات متقدمة للمراقبة ونقل الأسلحة لصالح الجيش الأوكراني.

نقوم بما نستطيع، وبما نملك، ومن حيث نحن»، هي لازمة مشتركة يتكرر سماعها من الأوكرانيين. وهي تلخص الطريقة الفريدة والمبتكرة التي مكّنت السكان والحكومة من مواجهة الاجتياح الروسي باستخدام ما توافر في تصرفهم - من قنابل عنقودية، وكوكتيل مولوتوف، أو مسيرات متوافرة تجارياً.
ربما يتواصل دفق المساعدات العسكرية الغربية (صواريخ مضادة للدبابات، ومسيرات، ومدافع هاوتزر، وأنظمة دفاع جوي، وخوذات وعربات مدرعة) إلى أوكرانيا، لكن الجيش الأوكراني يعمل أيضاً على التطوير والابتكار بما هو متوافر لديه. وهذا ما ينطبق على وجه الخصوص حينما يتعلق الأمر بالمسيرات. وكما يكتشف الجيش الأوكراني، ليس بالوسع امتلاك ما يكفي من المسيرات، ولهذا السبب أطلقت الحكومة صفحة تبرّع حيث يمكن للمواطنين أن يتبرعوا بالأموال، أو المسيرات، لما يدعى وحدة «جيش المسيرات» في أوكرانيا.
وفي المراحل الأولى للحرب في أوكرانيا، ظهرت تسجيلات فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي لعربة جوية غير آهلة تركية من نوع «بيرقدار» Bayraktar TB-2 تشن هجمات ضد دبابات، ومدفعية، وأنظمة دفاع جوي روسية. وكانت الولايات المتحدة قد تبرعت أيضاً بـ «مسيرات الكاميكازي (الانتحارية) الانقضاضية» Switchblade، لكن هناك أيضاً جيش من المواطنين والمتطوعين في أوكرانيا يعملون على تجميع وصيانة مسيرات لصالح الجيش، باستخدام ما توافر لهم من قطع وأجزاء.
ومن بين هؤلاء الشركات واحدة أوكرانية ناشئة تُدعى «إزيفيز» Iziviz، تلك التي كانت قبل الحرب تصنع مسيرات لاستكشاف أماكن خطرة وعصية على الوصول من مثل آبار الوقود وصهاريجها، ومجاري الصرف الصحي، والخزانات أو الأماكن السامة المنخفضة الأوكسجين. وصممت مسيرات استطلاعية لكي تحلق من دون «نظام تحديد الموقع العالمي» (GPS)، بل تعتمد بدلاً من ذلك على رؤية كومبيوترية ومستشعرات وحدة قياس بالقصور الذاتي أو الملاحة البصرية.
ويقول كونستانتين كلاياغن Konstantin Klyagin، وهو مستثمر وشريك في Iziviz: «بعد انطلاق الحرب، بدأنا العمل مع الجيش، لمنحه مسيرات ونساعده على ترميمها»، وأضاف: «إن المسيرات التي نبنيها للجيش هي بمعظمها تكتيكية وقد بُنيت استناداً إلى إحدى منصاتنا RDI وتصميمها الأساسي هو لكي تكون مسيرة خاصة لاستطلاع صوامع التخزين. وتستخدم هذه المسيرات من قبل الجيش (الأوكراني) لنقل حمولة إلى بعض الإحداثيات المحددة، لشن هجمات على الأغلب».
وتعتبر RDI مسيرة مراقبة خفيفة الوزن توفر ساعة من فترة التحليق من دون أية حمولة. ويمكنها أن تنقل 1.5 كلغ من الحمولة حتى مسافة 5 كيلومترات، وإسقاطها في مكان معين والعودة بسلام. أمّا RD5 فهي اشتقاق من مسيرة RDI لكن لمهام أكثر تعقيداً». فهي تنقل حمولة 5 كيلوغرامات لمسافة تصل إلى 10 كيلومترات وتستخدم لإسقاط الذخائر أو المراقبة.
وبعدما اندلعت الحرب في أوكرانيا، انتقل كلاياغن إلى البرتغال، لكن لا يزال ثمة فريق عمل صغير لشركة Iziviz على الأرض في أوكرانيا ليس بعيداً عن الجبهة الأمامية، يعمل على بناء وصيانة مسيرات لصالح الجيش الأوكراني. ويوضح: «تصبح بيئة أكثر توتراً بازدياد ما يعوق عمل الفريق». وأحد أعضاء الفريق بقي على الأرض في أوكرانيا هو «رومان» Roman (وقد طلب عدم نشر اسم عائلته إذ إن هناك متمردين مناصرين للروس حيث مقره في أوكرانيا ومن شأن إشهار اسمه أن يعرّض حياته للخطر). أما مقر «رومان» (العامل على تطوير المسيرات) فهو على بعد 50 كيلومتراً من الجبهة الأمامية حيث لا يزال القتال مستمراً.

تبرّعت الولايات المتحدة بِـ «مسيرات الكاميكازي (الانتحارية) الانقضاضية» Switchblade 30 Block 2 . الصورة: AeroVirmont
مزيد من الحمولة والمدى

كان «رومان» قبل الحرب يعمل في مصنع للفولاذ يستخدم المسيرات لقياس أكداس المواد. وقد استلهم من ذلك البدء في بناء المسيرات إذ إنه في كل وقت يكون فيه تفتيش، يتعين عليه إنشاء سقالات، ويخاطر الموظفون بالتعرض لأذية. وقال: «أعتقد أن بإمكان المسيرات القيام بهذه المهمة على نحو أفضل». وكما اكتشف «رومان» وشركة Iziviz أنه بإمكان المسيرات القيام بأشياء كثيرة خصوصاً إذا ما كان الوطن في خطر.
ويقول «رومان»: «هناك دفق متواصل من المسيرات التي يتعين تصليحها. ولا يسعنا أن نقول لا للجنود. فجميعنا مهتم في النتيجة ذاتها، أي التخلص من الغزاة. وهذا هو حافزنا». ويوضح أن المطالب الأكثر شيوعاً من الجيش الأوكراني هي: «مزيد من الحمولة، مزيد من المدى وإشارة مستقرة». وفيما يكثر الحديث عن استخدام مسيرات تجارية منتجة على نطاق واسع من قبل الجيش الأوكراني، يقول «رومان» إن تلك المسيرات لا تلبي جميع احتياجاته إذ إنها تعتمد بشدة على نظام GPS، لذا هي عاجزة عن العودة إلى قاعدتها إذا ما جرى التشويش على إشارتها. كما أنها تفتقد إلى أي حماية مبيتة ضد «الحرب الإلكترونية» (EW)، لذا يسهل تعقبها وغالباً ما ينكشف موقع المشغل.
ويؤكد رومان أن «الروس يدفعون بكَمٍ كبير من أجهزة التشويش إلى الجبهة الأمامية، لذا يصبح من الصعب على نحو كبير استخدام تلك المسيرات هناك». ومن أجل التصدي لذلك التهديد، يقول إن مسيرات شركة Iziviz تعتمد على سيناريوهات متعددة للتحليق في بيئة مشوشة: «ما أن تفقد المسيرة إشارتها، حتى تدرك أن هناك جهاز تشويش فتلتفّ عائدة في الاتجاه الذي جاءت منه وتحلق مجدداً لالتقاط الإشارة من جديد».
وقد بُنيت جميع المسيرات التي تقدمها شركة Iziviz للجيش الأوكراني يدوياً بكل عناء. ويقول كلاياغن: «ليس لدينا أي إنتاج على نطاق واسع. هناك عوائق معينة من ناحية الميزانية. إننا نحاول بناء المسيرة الأخف وزناً والأكثر قوة ومتانة يمكن توافرها». وأكد كلاياغين أن فريق عمله بنى حتى حينه مسيرتين للاستطلاع الجوي، تبلغ قيمة كل منهما 10,000 دولار، لصالح الجيش الأوكراني، وقد دفع الكلفة من حسابه. ويصل مدى تلك المسيرة إلى 15 كيلومتراً وهي ذات إقلاع وهبوط عموديين VTOL، وهي بعد الانطلاق عمودياً بأربعة دوّارات صغيرة تُحلّق كطائرة. وقد بُنيت خمس مسيرات استطلاع خفيفة الوزن RDI وست مسيرات قاذفة للقنابل ثقيلة من نوع RD6 استناداً إلى المنصة «الثقيلة» من Iziviz. كما أنشأت الشركة مسيرات انقضاضية «كاميكازي» يمكنها أن تنقل حمولة زنة كيلوغرام واحد، وقد بيعت الواحدة منها بنحو 600 دولار. ويوضح كلاياغن: «إننا نعمل أيضاً على صفقة لتطوير مسيرة رخيصة جداً تُستخدم لمرة واحد، بحسب الطلب، تزود بخاصية الرؤية الليلية وقدرة مضادة للحرب الإلكترونية من مؤسسة تابعة لحلف شمالي الأطلسي NATO».
 

RD5 هي اشتقاق من مسيرة RDI لكن لمهام أكثر قوة. الصورة: Iziviz
أعداد هائلة من المسيرات

لكن أوكرانيا تحتاج إلى عدد أكبر من المسيرات. ويقول كلاياغن إن المتطوعين يواصلون جمع الأموال لبناء مزيد من المسيرات. وتباع مسيرات RDI و RD5 من Iziviz في سوق التجزئة بأكثر من 20,000 دولار للواحدة، لكن هدف الشركة هو بناء مسيرة رخيصة جداً، يراوح سعرها بين 10,000 و 20,000 دولار، وبالتالي يمكن إرسال عدد كبير منها نحو العدو.
واستخدام أعداد هائلة من المسيرات لقصف العدو هو مفهوم مستلهم لا ريب من استخدام روسيا لمسيرات «شاهد-136» Shahed-136 المصنوعة إيرانياً لقصف المدن والبنى التحتية المدنية الأوكرانية. ومع ذلك، يقول كلاياغن إنه حتى المسيرات الإيرانية لا تزال ذات كلفة باهظة جداً. وثمة تقديرات تشي بأن كلفة مسيرة «شاهد» تراوح بين 20,000 و 50,000 يورو لكل مسيرة.
وليست Iziviz وحدها من يبحث عن وسائل لتطوير مسيرات أكثر رخصاً. ويقول خبير المسيرات جيمس إيرل James Earl، الذي خدم كطيار طوافة لدى «سلاح الجو الملكي» البريطاني وعمل في مجموعة من مشاريع المسيرات التجارية، إنه على علم بوجود عدد من شركات المسيرات التي تُطور «ناقلات ذخيرة أساسية تفيد من تكنولوجيا المسيرات»، لتستحدث بفعالية قدرات أشبه بأداء المدفعية البعيدة المدى، لكن عند سعر أدنى بكثير (15,000 دولار لكل مسيرة).
 

صندوق الاختبار الأمثل

يتابع كلاياغن موضحاً أن المسيرات تستخدم أنظمة دفع (بيستون) وفي بعض الحالات تكنولوجيا نفاثة، ويمكن أن تحلق بسرعات تصل إلى ما بين 300 و 350 كيلومتراً في الساعة، مع مدى يصل إلى 500 كيلومتر وسعة حمولة تبلغ نحو 40 كيلوغراماً. ويقول: «إنها ليست فائقة لسرعة الصوت، لكنها سريعة جداً، ونقطة الجذب فيها هي أنها أرخص من أي منصة أخرى متوافرة». ويتابع: «إن المختصر المستخدم من قبل المصنع الطليعي لهذه المنصات هو البساطة، والسعر المقبول، والاستعمال المتاح (SAD)».
ويقول إيرل إن من بين الأسواق الكبرى لهذا النوع من القدرات دول أفريقية عاجزة عن الانخراط في أسواق المدفعية البعيدة المدى، لكنه يؤكد أن أوكرانيا أصبحت مهداً فعلياً للابتكار في هذا المجال.
ويتابع إيرل: «تثير الحرب في أوكرانيا التحدي لوجهة نظر العديد من المعنيين حول المشتريات الدفاعية. فمن شأن البيروقراطية والوقت الذي تستغرقه المنصة للمصادقة على مشروع ما أن تجعل العديد من الجيوش عاجزة عن مجاراة التطورات والمستجدات التي تحدث في أوكرانيا».
تُشكّل الحرب في أوكرانيا «صندوق الاختبار» sandbox الأمثل لتجربة تكنولوجيات المسيرات المبتكرة، ويلفت كلاياغن إلى أن الاستخدام الشديد للمسيرات الإيرانية الانقضاضية من قبل روسيا يعني أن شركة Iziviz تسعى الآن إلى تطوير حلول مضادة للمسيرات. ويقول: «لا يمكنني الإفصاح عن المزيد، لكن ذلك يشتمل على استخدام مسيرات ضد مسيرات».

تستخدم روسيا أعداداً هائلة من مسيرات Shahed-136 المصنوعة إيرانياً لضرب الأهداف الحيوية
الشركات
تاريخ المقال
العدد
العدد حسب الاشهر
السنة
2023
رقم الصفحة
56

أخر المقالات