في ما يتعدَّى مدى المدفعية: الصواريخ المُطلَقة أرضاً تتَّجِه نحو البالستية

المترجم

 

أصبح «نظام راجمة الصواريخ المتعدّدة الإطلاق» Multiple Launch Rocket System (MLRS) و«نظام المدفعية الصاروخية ذات الحَرَكيّة العالية» High Mobility Artillery Rocket System (HIMARS) من المنصّات الرئيسية للصواريخ التكتيكية لدى الجيش الأميركي، وما يُماثلها لدى الجيوش الأخرى المتقدِّمة في العالم، حيث غَدَت بعد تجهيزها بأنظمة ملاحة على المتن وأجهزة إدارة رمي رقمية، قادرة على التحرُّك إلى موقع الإطلاق، والانتشار، وإطلاق الصواريخ والترحال من مكانها سريعاً. كما أنّ أمداء الصواريخ المُطلَقة أرضاً التي ازدادت تطوُّراً وتعقيداً قد نَمَت إلى حدٍّ كبير، في ظل عدم وجود معاهدة تحدُّ من الأمداء، وتتَّجِه لكي تصبح بالستية!

 

ويُسلِّط الضوء تقريرٌ وَضَعَه ستيفن ميلر في نشرة «آرمادا إنترناشونال»  Armada International، على هذه الناحية الدفاعية المهمّة ومستجدّاتها، إذ إنّ الصواريخ التكتيكية تُوسِّع من العمق الذي بإمكان القوة البرّية أنْ تشتبك فيه مع الأهداف وتُدمِّرها. وتُوفِّر هذه الصواريخ، المُرَكَّبة على عربة، حَرَكِيّة على الأرض والقدرة على الانسحاب وتغيير الموقع سريعاً بعد إطلاق النار. وبإمكان هذه الصواريخ أنْ تصل إلى أهدافٍ تتعدَّى أمداء قذائف المدفعية التقليدية ذوات السبطانات، وهي حالياً ما بين 30 كيلومتراً للقذائف عيار 152 ملم أو 155 ملم. حتى إنّ مدافع الهاون ذات المدى المُمَدَّد على غرار نظام ERCA لدى الجيش الأميركي الذي طوَّرته شركة «ب أيه إي سيستمز» BAE Systems سيُحرِز على الأرجح مدى يُقارب 70 كيلومتراً. وفي ما يتعدَّى ذلك هو ما يُخطَّط للصواريخ التكتيكية المُرتَكِزَة أرضاً أنْ تصل إليه.

وقد أثبتت أنظمة راجمة الصواريخ المستخدمة على نطاقٍ واسع خلال الحرب العالمية الثانية مدى الفعالية التكتيكية لمثل هذه الأسلحة. وعلى الرغم من اعتمادها على الصواريخ البسيطة ذات المَسرى الحر free-flight، فإنّ راجمات الإطلاق الروسية المُركَّبَة على شاحنة والأخرى الألمانية المقطورة «نيبيلويرفر» Nebelwerfer التابعة للجيش النازي Wehrmacht المستخدمة بوتيرةٍ مكثَّفة، كانت أسلحة فتّاكة من مواقعها خلف الخطوط الأمامية مباشرةً. وممّا أدَّى دوراً مماثلاً هو اعتماد صواريخ تكتيكية قابلة لاستيعاب رأسٍ حربي تقليدي، أو نووي أو محتوٍ على عامل كيميائي في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، على غرار الصواريخ السوفياتية Frog 7. SS21 Scarab والأميركية Lance. وبإمكان هذه الصواريخ أنْ تضرب منصّات إلى مسافةٍ أبعد خلف خطوط العدو على غرار القواعد الجوّية المتقدّمة، وبُقع الهبوط المؤقتة للطائرات، ومنشآت القيادة والسيطرة. وعلى الرغم من رؤوسها الحربية، فإنّ المدى المحدود لتلك الصواريخ لم يمنحها اعتباراً استراتيجياً. وتستهدف اشتقاقات الرأس الحربي التقليدي اليوم الأدوار ذاتها لكن بدقّةٍ أكبر وأمداءٍ أبعد بكثير.

«نظام المدفعية الصاروخية ذات الحَرَكيّة العالية» High Mobility Artillery Rocket System (HIMARS) تابع للقوات المسلحة الإماراتية. الصورة: Lockheed Martin
راجمات الصواريخ روسيا

 

عادةً ما تملك هذه الأنظمة العالية الحَرَكيّة سِكك أو حواضن إطلاق متعدّدة مركَّبة على منصّة شاحنة تكتيكية، على الرغم من أنّ «نظام راجمة الصواريخ المتعدّد الإطلاق» الأميركي M240 MLRS من إنتاج «لوكهيد مارتن» Lockheed Martin يستند إلى هيكل عربة مجنزرة. وهذه الأنظمة كانت في الأساس تستخدم صواريخ غير موجَّهة وتعتمد رمي صليات كثيفة لتغطية مساحة بأكملها. أمّا النظام الروسي BM-21 Grail (Hail) فهو مثالٌ كلاسيكي. يستخدم هذا النظام صواريخ عيار 40×122 ملم مع مدى يصل إلى 30-45 كيلومتراً ويُركَّب على شاحنة سُداسية العجلات Ural 375 أو شاحنة مماثلة. ويعتمد هذا النظام أكثر من 40 جيشاً وغالباً ما يكون في اشتقاقاتٍ ذات تصميمٍ محلي. وبإمكانه أن يرمي كامل حمولته في 20 ثانية والاستعداد للتحرُّك والترحال في غضون دقيقتَين. وهذه الخطوة الأخيرة حسّاسة إذ إنّ بصمة رمي راجمة إطلاق الصواريخ واضحة جداً ويمكن توقُّع تلقِّي ردٍّ سريع من بطاريات مُعادية لذا فإنّ الانسحاب من موقعها بسرعة ضروري جداً. وفي الواقع، تأتي منصّات MRL مجهّزة على نحو أمثل لأدوار شل وإسكات المدفعية ودَك مواقع السيطرة/القيادة للعدو، وبما أنّ بطارية BM-21 ستُغطِّي منطقة استهداف كبيرة فإنّه لا ضرورة لتحديد الموقع الفعلي للعدو المُستَهدَف.

وتستبدل القوات الروسية نظام BM-21 بصواريخ أكبر. ويشمل ذلك نظام BM-27 Uragan ‘Hurricane’ عيار 220 ملم، ونظام BM-30 Smerch مع صواريخ 300x12 ملم، والنظام الأحدث سُداسي الفوهات 9A52-A Tornado وجميعها مركَّبة على هيكل شاحنة ثُمانية العجلات. ويُعرَّف نظام «تورنادو» Tornado بكونه «نظام راجمة صواريخ  يُوفِّر إعادة تلقيم أشدّ سرعة، ولوجستيات أكثر بساطة وقدرة على رمي أنواع متوافرة من الصواريخ من دون إجراء أية تحضيراتٍ أو تغيُّراتٍ خاصة». وبإمكانه أن يُطلِق جميع الصواريخ عيار 122 ملم الحالية وكذلك صواريخ Smerch، بما في ذلك المقذوفات الشديدة الانفجار HE-FRAG، والحارقة والحرارية، والمضادة للجنود والعنقودية المُدمِّرة لحقول الألغام المضادة للدبّابات. وبوسع هذا النظام إطلاق مُسَيَّرة الاستطلاع الجوّي غير الآهلة المنتشرة بصاروخ 9M534. ويبلغ مداه 120 كيلومتراً مع أجهزة تحكُّم أوتوماتيكي بالتسديد والرمي باستخدام ملاحة وتحديد الموقع عبر السواتل لإتاحة قدرة تهيُّؤ ورمي وترحال في غضون دقيقة. وجرى إمداد أنظمة Tornado-S الأولى إلى «المنطقة العسكرية الجنوبية».

وقد نَشَر العديد من الدول أنظمة صواريخ نقّالة إمّا تستند إلى طُرُزٍ روسية أو تستخدم صاروخ عيار 122 ملم. ويعتمد Slovak RM-70 على هيكل شاحنة «تاترا» Tatra سُداسية العجلات ويتضمّن إعادة تلقيم ذاتي يشمل 40 طلقة. كما ويُعرَض هذا النظام مع حاضن صواريخ HIMARS عيار 227 ملم كبديلٍ ذي سعرٍ أقل. وجديرٌ بالذكر أنّ منصّة إطلاق الصورايخ الإسرائيلية LAR-160 تُركَّب على هيكل شاحنة بسيطة. وصواريخها عيار 160 ملم تملك رؤوساً حربية عنقودية وتُركَّب على حواضن إعادة تلقيمٍ سريع. ويستخدم اشتقاق روماني يُدعَى LAROM أيضاً صواريخ عيار 160 ملم تُوفِّر نظام صواريخ أخفّ وزناً أشبه بصواريخ «غراد» Grad الروسية.

 

سيُحرِز نظام مدفع الهاون ذو المدى المُمَدَّد ERCA لدى الجيش الأميركي الذي طوَّرته شركة BAE Systems على الأرجح مدى يُقارب 70 كيلومتراً
الهند

 

تُطوِّر «مؤسّسة الأبحاث والتطوير الدفاعي الهندية» (DRDO) منصّات راجمات الصواريخ الخاصة بها Pinaka. وهي تُركَّب على شاحنة Tatra وتضم 12 صاروخاً مع مدى أقصى لصاروخ Mark1 يصل إلى 40 كيلومتراً. وقد اختبرت الهند اشتقاقاً موجَّهاً يبلغ مداه 70 كيلومتراً في العام 2019. وكانت هذه المنصّة قد استخدمت خلال «حرب كارغيل»  Kargil War في العام 1999 بمواجهة باكستان. وتعتمد منصّة Pinaka نظام الملاحة بالقصور الذاتي Sigma من إنتاج شركة «سافران» SAFRAN بما يسمح بتكتيك «الرمي والترحال»  shoot and scoot. وإذا ما جرى تشبيك هذه البطاريات برادارات تحديد موقع الأسلحة وعربات جوّية غير آهلة ستُوفِّر قدرة استجابة مضادة لبطاريات العدو.

تركيا

 

تُصنِّع شركة «روكتسان» Roketsan التركية عدداً من أنظمة راجمات الصواريخ، حيث يُعتَبر نظامها T-300 Kasirga (Hurricane) أقرب نظام مُمَيْدَن موازٍ للنظام BM-300 Smerch. ويصل مدى صواريخ المنصّة الرباعية الفوهات عيار 300 ملم إلى نحو 100 كيلومتر مع رأسٍ حربي أُحادي M31 زنة 90 كيلوغراماً. وتُركَّب هذه المنصّة عموماً على شاحنة «مان» MAN سُداسية أو ثُمانية العجلات، وتضمّ على متنها أنظمة ملاحة وأجهزة تحكُّم بالرمي.

راجمة الصواريخ BM-30 Smerch مع صواريخ 300x12 ملم، تابعة للقوات المسلحة الكويتية. الصورة: Rosoboronexport
الصين

 

تستخدم جمهورية الصين الشعبية صواريخ عيار 300 ملم في نظامها PHL03، المشتمل على 12 سبطانة والمركَّب على متن شاحنة ثُمانية العجلات والذي شُوهِدَ للمرّة الأولى خلال استعراضٍ عسكري في العام 2005. وقد انضمّ إلى الصواريخ الأولية ذات مدى 70 كيلومتراً  طراز أكثر تقدُّماً ذي مدى 150 كيلومتراً. وتؤكِّد الشركة المطوِّرة «نورينكو» Norinco أنّ هذا النظام إذا ما جُهِّز بنظام تسديد أوتوماتيكي «سيكون قادراً على إحراز نقاط تأثيرٍ ارتطامي أشدّ كثافةً ما يتيح قوة تدميرية أكبر مع عددٍ أقل من الصواريخ».

 -	 9A52-A Tornado السداسية السبطانات وهي النظام الأحدث من راجمة الصواريخ BM-30 Smerch مركَّبة على هيكل شاحنة ثُمانية العجلات. الصورة: Rosoboronexport
نظام مُمَيْدَن عالمياً

 

يُمَيْدِن «نظام راجمة الصواريخ المتعدّدة الإطلاق» MLRS المركَّب على هيكل شاحنة مجنزرة M270 كلٌّ من الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، واليونان، وإيطاليا وتركيا. وكان هذا النظام يضمّ في البداية ستة صواريخ تقليدية M30 في كلّ حاضن ذات مدى يصل إلى 70 كيلومتراً، ولاحقاً مع (صاروخ) «نظام صاروخ الجيش التكتيكي الموجَّه» MGM-140 ATACMS في كلّ حاضن.

وكان الصاروخ يشمل في البداية حمولة من القنابل الصغيرة (قُنيبلات) العنقودية تُغطِّي مساحة كبيرة عند انفجارها لكن يُصاحبها معدّل عالٍ من القنابل الصغيرة العنقودية غير المُنفَجِرة (التي تفتك بالمدنيين الأبرياء!). وقد استُبدِلَ لاحقاً باشتقاق Block IVA الذي طوّرته شركة Lockheed Martin مع رأسٍ حربي أُحادي. وأوضح ناطقٌ باسم الشركة أنّ «هذا الرأس الحربي المتفجِّر في الجو الشديد الانفجار هو زنة 230 كيلوغراماً مع شظايا تنغستن Tungsten مُسبَقة التشكُّل ومدى يصل إلى 300 كيلومتر، ودقّةٍ متزايدة نتيجةً لنظام تحديد الموقع العالمي GPS المحدَّث وإلكترونيات توجيهه». وقد بدأ تسليم الاشتقاقات الأولى منه في العام 2016.

راجمة الصواريخ التركية T-300 Kasirga (Hurricane). الصورة: Roketsan
نظام HIMARS

 

أمّا «نظام المدفعية الصاروخية العالي الحركية» HIMARS M142 فهو أساساً منصّة إطلاق MLRS مركَّبة على شاحنة تكتيكية لكنّها قادرة على نقل حاضن صواريخ واحد فحسب. لكنّ نقلُه وصيانتُه أكثر سهولة. وقد اعتمدت هذا النظام سبعة جيوش آخرها الجيشان البولندي والروماني. وقد استحوذ نظام HIMARS في الآونة الأخيرة على اهتمامٍ شديد بصفته نظاماً يمكن نَشْره سريعاً عبر الجو إلى مواقع متقدِّمة بغية توفير سيطرة على بقعة بحريّة أو برّية محدّدة. ومن الناحية البحرية، جرى تجهيز نظام HIMARS بـ «الصاروخ الضارب البحري» Naval Strike Missile (NSM) من صنع شركة كونغزبيرغ» Kongsberg، وهو نظام ذو قدرة مجرّبة للاشتباك مع أهداف ثابتة ومتحرِّكة بدقّة كبيرة. وقد تواصلت قوات المارينز الأميركية في أيار/مايو العام 2019 مع «وحدة أعمال رايثيون للصواريخ والدفاع» Raytheon Missile and Defence، الشريك الأميركي لشركة Kongsberg، لكي تُلبِّي لها هذا المطلب الدفاعي. وكان الجيش الأميركي قد مَنَحَ أساساً الأولوية لقدرة اشتباك مضادة للسفن في تطوير «الصاروخ الضارب الدقيق» Precision Strike Missile (PrSM) من أجل استبدال «نظام الصاروخ التكتيكي للجيش» ATACMS الجاري تطويرة على وتيرةٍ متسارعة في برنامجٍ خاص.

لكنّ العقيد جون رافارتي John Rafferty، مدير فريق الاختبارات المشتركة للرمي الدقيق البعيد المدى LRPF، أكّد خلال مؤتمر نُظِّمَ في تموز/يوليو العام 2019 في «مركز الدارسات الاستراتيجية والدولية» CSIS، أنّه قد تبيَّنَ بأنّ الرؤوس الباحثة عن الأهداف المتوافرة من الصواريخ المضادة للسفن لدى البحرية الأميركية لا يمكن استخدامها. وحيث إنّ معظم هذه الأخيرة هي «صواريخ مضادة للسفن مُحلِّقة بالقرب من سطح البحر» sea skimmers مباشرةً، تختلف معايير تهديفها عن تلك الخاصة بالصواريخ الضاربة الانقضاضية من زاوية عالية. وقد بدأ اختبار الصواريخ المُرشَّحة من Raytheon و Lockheed Martin منذ نهاية العام 2019.

وكانت وسائل إعلام كوريا الشمالية قد أعلنت في شهر آب/أغسطس من العام 2019 عن اختبار رمي صاروخ أرض-أرض تكتيكي. ويُقال إنّ منصّة راجمة الصواريخ الجديدة المتعدِّدة السبطانات فوهات يبلغ مداها نحو 200 كيلومتر، أي أبعد بكثير من المدى البالغ 70 كيلومتراً للأنظمة السابقة. وصرَّح مسؤولون في حكومة كوريا الجنوبية أنّ السلاح المُختَبر شبيهٌ جداً بـ «نظام راجمة الصواريخ التكتيكي متعدّد الإطلاق» MLRS ATACMS. وعند مَيْدَنته سيُضيف هذا النظام قوة كبيرة إلى الأنظمة المدفعية والصاروخية الهائلة المنتشرة على طول المنطقة المنزوعة السلاح بين الكوريتين (وجديرٌ بالذكر أنّ التصميم المحلي في كوريا الشمالية لنظام Hyunmoo-3 هو صاروخ مُطلَق من على متن شاحنة يأتي في ثلاثة اشتقاقات يبلغ مداها على التوالي 500 و 1,000 و 1,500 كيلومتر. وهو يستخدم «نظام تحديد الموقع العالمي» GPS وملاحة بالقصور الذاتي وبمقارنة خطوط التضاريس الأرضية terrain contour matching أشبه بأداء صاروخٍ جوّال لإيصال رأسٍ حربي تقليدي زنة 500 كيلوغرام).

تستخدم جمهورية الصين الشعبية صواريخ عيار 300 ملم في نظامها PHL03، المشتمل على 12 سبطانة والمركَّب على متن شاحنة ثُمانية العجلات. الصورة: Norinco
صورايخ وحمولات مستقبلية

 

يعكف الجيش الأميركي على دراسة قدرة تنفيذ «ضرباتٍ في العمق» كأداةٍ أساسية في ما يُقارِب حرب «من الندّ إلى الندّ» peer-to-peer. فمهاجمة أهداف في ما يتعدّى ميدان المعركة الأمامي كانت منذ أواخر «الحرب العالمية الثانية» مهمّة تُنفِّذها في الأساس القوّات الجوّية. وقد أرست القوات الجوّية التكتيكية الغربية تفوُّقاً وهاجمت بسهولة مواقع القيادة الخلفية ومنشآت الدعم واللوجستيات وغيرها خلف خطوط العدو. لكن في ظل الفعالية المتزايدة المُثبَتة للدفاعات الجوّية، فإنّ هذه الهيمنة الجوّية لم تعُد مضمونة. وبات الآن من الضروري بناء قدرة مُرتَكِزَة أرضاً لضَرْب أهدافٍ حسّاسة تقع خلف الأمداء المعتادة لمدفعية الجيش. وفي الواقع، تتطلّع أسلحة الجو حالياً إلى العناصر الأرضية لمهاجمة وشل الدفاعات الجوّية المُعادية من أجل الإتاحة لتلك القوّات بتنفيذ عملياتها.

أمّا النظام ذو الأولوية لدى الجيش الأميركي لتحقيق ذلك فهو «الصاروخ الضارب الدقيق» PrSM. وأوضح مكتب مشروع «أنظمة الصواريخ الموجَّهة وغير الموجَّهة ذات الرمي الدقيق» PFRMS في قاعدة «ردستون أرسينال» Redstone Arsenal، أنّه: «من شأن الصاروخ الضارب الدقيق PrSM أنْ يُدمِّر/ يشل أهدافاً على أمداء تُراوِح بين 70 و 400 كيلومتر وأكثر من ذلك». ويُتوقع أن يستبدل هذا الصاروخ نظام ATACMS وسيُطلَق من منصّات MLRS و HIMARS، وسيكون ثمة صاروخان في كلّ حاضن «للإفادة من حمولة ذخائر عنقودية تتماثل مع معاهدة الذخائر غير الحسّاسة».

وبذلك نعود إلى مسألة الذخائر العنقودية التي تُشكِّل هاجساً لجهاتٍ كثيرة. فقد هيمنت هذه الذخائر على تفكير الجيش الأميركي لأكثر من 40 عاماً بدءاً من ستينات القرن الماضي حينما اعتمدَ عليها سلاحا المدفعية والجو على حدٍّ سواء بشكلٍ كبير. لكن المشكلة هي أنّها تُظهِر معدّلات عالية من ناحية الذخائر العنقودية غير المتفجِّرة تصل إلى 30 بالمئة بما يترك أعداداً كبيرة منها لتُشكِّل خطراً في وقتٍ لاحق على العسكريين والمدنيين سواء بسواء. وعلى الرغم من أنّ الولايات المتحدة لم تُوقِّع معاهدة العام 2010 حول القنابل العنقودية، فإنّها بقيت حتى الآونة الأخيرة مُلتَزِمَة بالامتثال لهذه الاتفاقية وهي تتَّجِه منذ مطلع العام 2019 إلى تطبيق حظرٍ كامل.

لكنّ نائب وزير الدفاع باتريك شاناهان Patrick Shanahan قد عَمَدَ في 30 تشرين الثاني/نوفمبر العام 2017 إلى تطبيق هذا الحظر. ولسوء الحظ، يبقى التقدُّم حول تطوير ذخائر عنقودية مع نسبة واحد بالمئة أو أقل من معدّل الذخائر غير المتفجِّرة الذي أُولِيَ أهمية كبيرة أمراً لا يسهُل تطبيقه. وفي الواقع، فإنّ روسيا، كما يتبيّن من استخدامها لمثل هذه الذخائر في سوريا، لا تراها علناً فحسب بأنّها مشروعة بل تسعى إلى توسيع استخدامها. وتزعم وكالة الأنباء الروسية «سبوتنك» Sputnik أنّ «الذخائر العنقودية الثانوية الروسية الجديدة هي أذكى بكثير من نظيراتها الأميركية».

وقد طوَّرت الصين بدورها صواريخ ذات رؤوس حربية تشتمل على ذخائر عنقودية، تُطلَق من منصّات صواريخ عيار 122 ملم.

والواقع العملي يدلّ على أنّ القُنيبلات العنقودية التي يمكن أن تُغطِّي بقعة هدف كبيرة تُوفِّر عموماً الحمولة التدميرية الأكثر فعالية. وفيما تُحرِز الصواريخ أمداء أكبر وتُستَخدم ضدّ أهداف منطقة مثل بطاريات الصواريخ المضادة للجوّيات المتباعِدة ومَدارِج الطيران العملانية، يزداد استقطاب حمولة الذخائر العنقودية.

جرى تجهيز نظام HIMARS بـ «الصاروخ الضارب البحري» Naval Strike Missile (NSM) من صنع شركة Kongsberg. الصورة: Raytheon
الصواريخ المتعدِّدة مقابل الأخرى البالستية الأُحادية

 

يواصِل الجيش الأميركي وجيوش حلف شمال الأطلسي «الناتو» NATO الاعتماد كلّياً على منصّة راجمة الصواريخ المتعدِّدة السبطانات البعيدة المدى المرتَكِزَة أرضاً ذوات الدفع خلال مَسرى انطلاقها. وهي تشتمل على توجيهٍ مستقلّ وتصحيحٍ خلال المَسرى مع تهديفٍ دقيق باستخدام «نظام تحديد الموقع العالمي» GPS معزَّز بتوجيهٍ بالقصور الذاتي.

لكنّ روسيا لم تُواصِل فحسب تطوير أنظمتها التقليدية لراجمة الصواريخ المتعدّدة السبطانات بل سَعَت أيضاً إلى تطوير صواريخ بالستية تكتيكية. وهذا اتّجاهٌ تخلَّى الغرب عن السَّعِي إليه منذ انسحابه العام 1988 من «معاهدة القوات النووية المتوسطة المدى»  INF والتخلُّص من صواريخ Pershing II. ويُعتَبر نظام 9K720 Iskander-M الروسي صاروخ بالستي قصير المدى مُقتَدِر يضمّ صاروخَين في كلّ منصّة مع مدى يصل إلى 280 كيلومتراً في اشتقاقات التصدير، و 400-500 كيلومتر في الطُّرُز المحلية. وتشمل حمولته زنة 700 كيلوغرام ذخائر ثانوية «شديدة الانفجار» HE، وذخائر متفجِّرة جوّاً، وذخائر خارقة شديدة الانفجار، وفي النموذج المحلي حمولة نووية. وصُمِّم صاروخ «إسكندر» Iskander أيضاً لتجنُّب الدفاعات الصاروخية. وهو يمتثل لحدود معاهدة INF، لكن مع الانسحاب الأميركي من هذه المعاهدة ربّما يعدَّل تصميمه لأمداءٍ مُمدَّدة.

ويغدو من الصعب على نحو متزايد التمييز بين الصواريخ التكتيكية والأخرى الاستراتيجية، وهي مسألةٌ على الرغم من مثالبها نجدُ خطوطاً إرشادية لها في «معاهدة القوات النووية المتوسطة المدى» INF. والتطوير الشديد للصواريخ الفائقة لسرعة الصوت إنّما تُعقِّد هذه المسألة على نحو أكثر. وهذا يُضيف مستوى متزايداً من عدم اليقين إزاء الاستخدام المُزمَع أو المقصود للصاروخ.

يُعتَبر نظام 9K720 Iskander-M الروسي صاروخاً بالستياً قصير المدى مُقتَدِراً يضمّ صاروخَين في كلّ منصّة مع مدى يصل إلى 280 كيلومتراً في اشتقاقات التصدير، و 400-500 كيلومتر في الطُّرُز المحلية. الصورة: Rosoboronexport
الباب
تاريخ المقال
العدد
العدد حسب الاشهر
السنة
2021
رقم الصفحة
48

أخر المقالات